(( أما أنا فقد رضيت بقضاء الله وقدره ، وأسأل الله تعالى الأجر والثواب .. ولكني لا أحب أن يبتلى أولادي في أولادهم بمثل ابتليت به .. ولذلك فإني أطلب منكم أن تتفضلوا بعرض ابنكم الخاطب على الطبيب لإجراء الفحص .. قبل أن ينتشر خبر الخطبة بين الناس والنتيجة سر بيننا حفاظا على سمعته وسمعة ابنتي .. وسوف أبدأ بابنتي إن شاء الله ، والله هو الموفق لما فيه خير الطرفين )).
هكذا هشَّم هذا الأب الواعي الحاجز الاجتماعي الرهيب المفروض على قضية الفحص قبل الزواج ، للتأكد من سلامة أحد الطرفين ـ على الأقل ـ من أن يكون حاملا لمرض تكسر الدم الوراثي ، بل استطاع أن يخرج من شرنقة المخاوف المفرطة والقلق المتبادل والتوجس الحذر ، تلك الحساسيات التي تقع بين أهل الخاطب وأهل المخطوبة خوفا من عدم إتمام عقد الزوجية .. إيمانا من هذا المثقف القوي بأن قضية إتمام الزواج بيد الله وحده ، والسعادة الزوجية ليست ليلة واحدة ، فبقاء الفتاة في كنف والدها ولو دون زواج أفضل من دخولها في عصمة رجل لا تنجب منه سوى مرضى بأشد الأمراض فتكا بأعضاء الإنسان ونفسيته ، ولنلاحظ أن هذا الطلب ليس من جانب أهل الرجل ( الجانب الأقوى) ، ولكنه من جانب الفتاة ، ومع ذلك توغل والدها في النظرة المستقبلية، ورأى أن سعادتها الأسرية لن تتم إلا حين تنعم بأولاد أصحاء ، فالمتعجلون في تزويج بناتهم بحجة عدم تفويت الفرصة ، وأن ما يحدث مستقبلا هو في علم الغيب ، وأنهم لا يقدمون إلا الفأل الحسن ، وأن الأمر كله لله من قبل ومن بعد، يجهلون حقيقة التوكل على الله ، وأنها لا تنافي الأخذ بالأسباب ، وهو النهج الذي تبناه الحبيب المصطفى طوال حياته ، وهو الذي امتدح الطير في حديث التوكل فقال : ( لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) ، فالطير لم تبق في عشها تنتظر رزق الله ، بل ذهبت لتبحث عنه فغدت وراحت ، فحقيقة التوكل على الله إذن تتطلب بذل الأسباب، وعدم التوكل عليها ، بل لله بعد ذلك أن يمضي ما يشاء ويختار .
والواقع أن بذل السبب في هذه القضية بالذات ليس أمرا صعبا ، ولا مكلفا .. وليس فيه ـ فيما ألاحظ ـ سوى الحرج الاجتماعي ، والمجاملات الضارة ، فإذا استطاع أن يتجاوز ذلك أحد الطرفين ويفاتح الآخر ، فقد انتهى كل شيء ، وتلاشى ـ بإذن الله ـ القلق على مصير الأولاد في أمراض هي من أشرس الأمراض وأكثرها انتشارا ، ولا سيما أن نسبة الإصابة في مجتمعنا بمرض تكسر الدم والإعاقة كبيرة جدا ، لا تسمح بتأخير هذا القرار ، الذي رحب به عدد من أهل العلم الشرعي، ورآه أهل الطب حلا ناجعا بإذن الله ليس له بديل.
إن اتخاذ قرار رسمي بعدم إجراء عقد الزواج إلا بعد الفحص الطبي ، سوف ينهي قضية الحرج الاجتماعي ، فالذي سوف يطلب تقرير المستشفى هو المأذون الشرعي وليس أحد الطرفين المتحرجين ، وسوف يعتاد ذلك المجتمع ، وإن الإبطاء في اتخاذ هذا القرار هو مزيد من المآسي في البيوت ، ومزيد من نزيف الأرواح ، ومزيد من نزيف الأموال التي تبذلها الدولة بالملايين شهريا في متابعة ذوي الاحتياجات الخاصة ، وفي مكافحة المرض وعلاجه ، ومزيد من إرهاق جيوب الآباء في متابعة أمراض لا سبيل إلى شفائها إلا أن يشاء الله ، مع أن بالإمكان ـ بإذن الله ـ أن تحفظ كل هذه الضرورات بفحص لا يستغرق سوى قليل جدا من المال والزمن .
بصمة ..
حقا لم أظمأ لقرار صحي كظمئي لهذا القرار .. فهل سيهل علينا مع هذا الهلال ؟
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.