التقليد والمعاصرة !

قرأت في مقالة غفل من اسم صاحبها قوله : (( إذا كان بعض النقاد يرى في المعاصرة أنها ليست في المعايشة الزمانية فقط ، أو الانقطاع عن التراث ، أو الاهتمام بمشكلات العصر ، وإنما هي في التشبع بروح العصر ومتطلباته ، والصلة القوية بما يصلح من التراث ، والتعبير عن أزمات الإنسان المعاصر ومعاناته ، فإنه بهذا المقياس يسقط كثير من الشعراء من غربال الناقد ، وتبقى قلة منهم ذات أحجام تستعصي على الغربال )) .

حقا إن الشاعر الذي يستحق أن يدرج اسمه في شعراء عصره هو ذلك الدائم البحث عن الجديد ، الذي لا يكل عن الطموح إلى التميز ، حتى وإن كان أكبر من قدراته الفطرية ، أو أوسع من حدود موهبته . وهذا الشعور المتوثب في حد ذاته يقود إلى محاولة التجديد ، مهما كانت قيمتها التاريخية والفنية.

وقد ارتبط التجديد عند بعض المعاصرين باحتذاء الأنموذج الغربي في شكله ومضمونه ؛ حتى كثرت في أشعار هؤلاء صور الصليب بالمفهوم النصراني ، وآلهة اليونان بالمفهوم الوثني ، والأدب المكشوف كما عرفوه عن الشاعر الفرنسي بودلير ومدرسته الرمزية ، والتأملات الملحدة والمتمردة كما تلقوها عن شعراء الوجودية ، ومقلديهم من مدرسة المهجر . والواقع غير ذلك ، فإن التجديد روح العصر الذي تتمثله نفس حساسة، تتمتع بأصالتها الفكرية مع امتداد جذورها في الماضي الزاهر ، وتنطلق من عفويتها وطبعها إلى آفاق الإبداع ؛ غير محكومة بقيود التقليد .

إن الاتباع في حد ذاته لا يعني التقليد المذموم ؛ فالاتباع سمة أصالة ومحافظة على القديم  النافع الصالح للعصر مما ورثناه من العصور السابقة ، مع ظهور سمات العصر ، وخصائص الشخصية الذاتية ، واستمرار محاولات الإبداع . والتقليد سمة ضعف وقصور ؛ لأنها تعني ـ فيما تعنيه ـ ضياع شخصية صاحبها ، واستسلامه التام لتفكير سابق ، وتكبيلا للموهبة عن الابتكار والتجديد .

والشاعر المبدع لا يظهر عليه اتباع حاد لشاعر محدد ، بل تبدو في شعره أصالته واستقلال شخصيته الشعرية ، ولغته الخاصة . ومع ذلك فقد تنطبع إحدى قصائده في قالبها الفني بقصيدة تعجبه قديمة أو حديثة ، ولا بأس بذلك ، فإن التأثر والتأثير أمر فطري عفوي لا يتعمده الإنسان ، ومنه مسارقة الطبع ؛ المهم ألا يتأثر تأثر ذوبان ؛ كما هو حال الشعراء المقلدين .

ومما نراه في المقابلات التي تجرى مع الشعراء حرصهم على تبرأة ساحاتهم من التأثر بالشعراء الآخرين ، وذلك خطأ جسيم ، فالتناص قضية مسلمة في جميع فنون الأدب     لا مفر منها ، ولن يضير كاتبا ـ كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال ـ مهما تكن عبقريته ، ومهما سما فنه أن يتأثر بإنتاج الآخرين ، ويستخلصه لنفسه ، ليخرج منه إنتاجا منطبعا بطابعه ، متسما بمواهبه . فلكل فكرة ذات قيمة في العالم المتمدين جذورها في تاريخ الفكر الإنساني الذي هو ميراث الناس عامة ، وتراث ذوي المواهب منهم بصفة خاصة ، ويقول بول فاليري PaulValery في كتابه choses Vues : ” لا شيء أدعى إلى إبراز أصالة الكاتب وشخصيته من أن يتغذى بآراء الآخرين ، فما الليث إلا عدة خراف مهضومة ” )) . ولذلك يقرر الدكتور مصطفى سويف : (( أن عملية الإبداع يوجهها الإطار ، وقد يقال : إن في هذا القول قضاء على جوهر الإبداع من حيث إنه الخلق على غير مثال ، ولكن هذا الاعتراض يحمل بعض الخطأ ، فإن الإطار من حيث هو كلٌّ منظمٌ يخضع لظروف الشخصية المختلفة ؛ بحيث لا يمكن أن يكون الإطار الذي أحمله أنا مطابقا تماما للإطار الذي تحمله أنت ، … فالشخصية على الدوام لها مميزاتها الخاصة)) .

ويقول أستاذي الدكتور حسني عبد الجليل : (( ولا شك في أن التفاعل بين النصوص عند الشاعر يمثل منطلقا  للإبداع ؛ فإذا كانت الاتباعية بمعناها الواسع تعني انطلاق المبدع من عالم له تقاليده وأصوله وأنماطه ونماذجه ، فإن الإطار الذي ينتظم عملية الإبداع ليس إطارا فارغا من المحتوى ، بل هو إطار ذو محتوى )) .

أبعد هذا سوف تنكر تتلمذك على من سبقك أو يعيش حولك ؟



اترك تعليقاً