الشعر في موكب الحجيج

في هذا اليوم .. أول أيام التشريق التي شرع لها أن تكون أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى ، أعمال شتى تتوزع الحجيج في مواطن متفرقة ، رحمة بهم ورفقا ، ومشاهد رائعة مليئة بالحركة الدؤوب ، يصورها أحد الشعراء بقوله :

محلقين تهادوا في رحـــالـهم      من بطن مــكة أفرادا  وأقرانا

حلوا حقائبهم فيها مفــرغــة    واستحقبوا من عطاء الله غفرانا

من بعد ما طوفوا بالبيت واعتمروا     واستلمـوا منه أحجارا وأركانا

ورددوا السعي بين المروتين تقـى       حينا عجالا وفوق الريث أحيانا

وعقروا  بمنى من بعد حلــقهم       كــوم المطي مسنات وثنيانا

واستمطروا بعراص الموقفين وقـد      غامت عليهم سماء الله رضوانا

أرض تراها طوال الدهر مقـفرة        والحــج ينبتها شيبا وشبانا

مسبلين كأن البعث أعجـلهـم فاستصحبوا من بطون الأرض أكفانا

لله در الليالي في منى سلـفــت       فكــم جميل بها الرحمن أولانا

ويبلغ حنين الحاج إلى دياره إلى ذروته ، متطلعا للرجعة الظافرة ، التي قال فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) . مرددا قول الشاعر الذي اختزل صور الأعمال الأخيرة من النسك كلها في بيتين أنشدهما فقال :

ولما قضينا من منى كل حاجة        وطوف بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا       وسالت بأطراف المطي الأباطح

فما أجمل هذه الصورة وأروعها .. إنها تشير إلى تهادي الركب فرحا وسرورا بإتمام النعمة ، والعودة إلى أحاديث الشوق إلى الديار ، بعد أداء المناسك ، فهاهو ذا مشهد الحجيج قد اكتمل ، والبسمات تعلو الشفاه المعطرة بذكر الله وشكره على ما امتن به سبحانه عليهم من أداء المناسك في يسر وسهولة . كيف لا وقد امتن الله على العباد في هذا الوطن الحبيب بنعمة الأمن ، فبعد أن كانت طريق الحج مرصدا لقطاع الطرق واللصوص ، ومهلكة لا يخرج منها إلا قليل ، عادت في هذا العهد الميمون ، آمنة السبل ، جمة الخدمات والمنافع ؛ حتى اختفت كثير من المشقات التي كانت تعترض سبيل الحاج ، والتي باح بها أحد الشعراء القدماء حين سئل عن طريق الحج فقال :

وسائل عن طريق الحج قلت له          لا يقبل الله إلا الصعب قربانا

هو الطريق إلى سكنى الجنان فقل        فـيما يصيرنا في الخلد سكانا

لما ركبناه أخرجنا على شغــف       من الصــدور أهالينا ودنيانا

ثم استوى فيه في أمن وفي حـذر        عدلا من الله لأدنـانا وأقصانا

فكم لقينا عظيما مر جـانـبـنا       وكم منينا بمكروه تخــطـانا

وكم رمانا الردى عن قوس معطبة       لما انثنينا بيأس عنه واتــانـا

حقا مهما كان من تسهيل وتيسير فلا بد من مشقة ، بها يعظم أجر الحاج، فالسفر قطعة من العذاب ، تختل فيه جميع الممارسات اليومية التي كان الحاج يمارسها في دياره ، فالمركب والمرقد والمأكل والمشرب والمجالس كل ذلك قد تغير ، وغالبا هو من غير الذي تعوده هذا الحاج ، والبعد عن الأهل والخلان ، والبلد والمصالح الدنيوية ، فلا بد إذن من الصبر والتحمل .

وهنا يحسن من الحاج أن يتعلم هذا الدرس جيدا ، فكم نحن في حاجة إليه ، فالدنيا مجبولة على النقص ، ضحك وبكاء ، وتجمع وشتات ، وشدة ورخاء ، وسراء وضراء ، دار غرور لمن اغتر بها ، وهي عبرة لمن اعتبر بها ، ولكن إذا استحكمت الأزمات، وترادفت الضوائق ، فلا مخرج إلا بالإيمان بالله والتوكل عليه وحسن الصبر ، ذلك النور العاصم من التخبط ، والدرع الواقية من اليأس والقنوط ( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) . 



اترك تعليقاً