الصدى الضائع

سألته ـ قبل خمس عشرة سنة تقريبا ـ عن ديوانه فأجابني : هو ضائع كاسمه ..

وتمر السنوات ، ويلقى الرجل ربه ، وتنبت فوق قبره زنبقة الأمل .. أن يجد هذا الأديب المشهور في شبابه المغمور في شيخوخته من يدفع مركبته الحائرة في رمال اللامبالاة زهاء نصف قرن من الزمان ، وتلح علي الفكرة أن أبادر بجمع نتاجه الشعري والنقدي ، ولكن الأيام تتلاحق ، ويدركني ما لا أستطيع معه أن أنجز ما حلمت به ، وأظن بأولاده ما هم جديرون به من بر ووفاء لأبيهم ، فتتقدم هيفاء ابنة الأديب أحمد بن راشد آل مبارك التي رأت أن تقدم تحت العنوان الذي اختاره أبوها لديوانه بقية الشعر الذي استطاعت أن تجمع أشتاته من الأقرباء والأصدقاء ، لتقدمه في ثوب جميل ، لعلها (( تظل ذكرى لمن عاصروه وأحبوه ، وللتأريخ لشاعر يفيض رقة وشفافية ))، وبعد سنين يخرج الديوان مرة أخرى بأيدي بعض أولاده بإشراف من الشيخ الأستاذ الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك، ولكن بزيادة رائعة في المحتوى الشعري، والنقدي، حيث ألحق بالديوان عدد من المقالات التي كتبها الراحل في أجواء المناظرات الأدبية التي كانت محتدمة قبل زهاء سبعة عقود في عواصم الثقافة العربية آنذاك؛ بغداد ودمشق وبيروت والقاهرة، والتي كانت أصداؤها ترن في بعض صحف البحرين والخليج.

ليس الأستاذ أحمد كأي شاعر .. وإنما هو رائد الشعر الحديث في الأحساء ، فقد نفض أسمال الشعر البالية التي كانت مفخرة لشعراء البديع من حوله ، وراح يقطف بكفه ثمرات المطابع العربية من أجمل ما تدلى في حديقة الأدب الحديث في العالم العربي كله ، كان ذلك في العقد السادس من القرن الهجري المنصرم ، ونضج بسرعة حتى أذهلت كتابته الأستاذ عمر فروخ صاحب الأمالي البيروتية ، فامتدحه في تقريض طريف لمقالة نقدية له أرسلها إليه ، ونشرت آنذاك ، واقتحمت مقالاته العزلة المضروبة على أدباء بلده، فنشر في صوت الحجاز والمقتطف والرسالة والثقافة والأديب وغيرها .. ، واطلع على الأدب الأجنبي بلغاته الأصليه ، وترجم عنه شيئا قليلا ، في حين لم يكن ذلك الأدب معروفا لكثير من أدباء بلده ، الذين لم يغادروه .

لقد كان الأستاذ المبارك أبرز النقاد الذي دخلوا في مناظرات المصطلحات الأدبية الحديثة في الخليج ، وكان صاحب القدح المعلى في معارك الأدب التي نشبت على غرار معارك طه حسين والعقاد والرافعي في مصر ، بين القديم والجديد . وإن صحف البحرين التي كانت تصدر في متتصف القرن الميلادي المنصرم ـ وهي من أقوى الصحف الأدبية في الخليج وقتئذ ـ لم تشهد أحدَّ قلما ، ولا أرقى ثقافة ، ولا أنكى سخرية من نتاج أحمد بن راشد المبارك . ولكن كما قال هو في مرثيته لعمه وكأنه يعني نفسه :

فلقد عرفت وما عرفت حقـيقة        ولقد جهلت وما جهلت خمولا

وإن مثل الصدى الضائع الذي بقي في حبس صاحبه أكثر من نصف قرن .. أصداء أخرى ضائعة في تضاعيف أوراق أدباء الأحساء سواء منهم الأحياء والأموات ، ولا أدري لماذا كل هذا التردد في إخراج النتاج الذي يستحق أن يخرج .. أهو التواضع ؟ أم الخوف من النقد؟

إن كل من ورث شيئا من نتاج العقول والقلوب علما أو أدبا ثم كتمه إنما يقبض على الجمر ، إن شاء أخرجه وارتاح من حره ، وإن شاء فليختزن لهيبه ، ويتحمل تبعة حجبه عن العصر الذي أنتجه ، فليس الأديب أو ورثته هم وحدهم أصحاب الحق في نتاجه ، وإنما للعصر أيضا حق كبير في رفع الحرج عنه الذي يحدث له حينما تغيب عنه عناصر الحكم عليه بالرقي والتقدم ، وأبرزها نتاج هؤلاء الأعلام .

وإذا كان هذا المحجوب علما نافعا فإني أخاف عليه من حديث : (( من كتم علما نافعا ألجمه الله بلجام من نار )) أو كما قال صلى الله عليه وسلم .

ولا أريد أن أختم هذه الخواطر دون أن أدفع بأبيات لا تزال تنبض بالحياة بعد أن مر عليها أكثر من ثلاثين عاما ، بعد أن مرت على الشاعر ذكرى إحراق المسجد الأقصى ، أهديها إلى الصامدين من أبناء فلسطين .. :

هذا هو المسجد الأقصى وذكـراه     قد دنس البغي ما ضمـت زوايــاه

مهد النبوات والأمجاد صارخــة     أواه لــو تـنـفـع المـحزون أواه

نرجو ونأمل من أعـدائه نصـفا      في الشرق والغرب شعب خاب مسعاه

لا الغرب أنجدنا لا الشرق أسعفنا       فـكـلـهـم في تبـني البغي أشباه

هيـهـات تـنـقذنا إلا عزائمنا      في وحــدة الدين يرعانا ونـرعـاه

كــنا على مبســم الأيام أغنية      عــصمـاء رددها للمجد أبنـاه

واليوم من نحن ؟ قطــعان مشردة      سلوا المفاوز كم ضلوا وكم تـاهوا

إن رمت حقك في الدنيا فكن رجلا       يملي على مـسمع الدنيا دعـاواه

فاقذف بقيدك في وجه الـعدو وثر       وخل للعاجز المغــبـون بلـواه

بصمة ..

شكرا هيفاء .. ونحن في انتظار بقية نتاج والدك .. وفي انتظار هيفاء في كل بيت من بيوت أدبائنا الراحلين ..



اترك تعليقاً