ينصرف مصطلح الحرية في الشعر ـ إذا أطلق ـ إلى الجانب الموسيقي العروضي وحده عند كثير من الدارسين ، ولكني أجد أن هذه الحرية هي أقل جوانب الحرية لدى الشاعر أهمية ، وأرى أن أعلاها يتبلور في أربع سمات ، أولها: الذاتية وصدق التجربة : فإن من أبرز ما يؤخذ على الشعر التقليدي ( الغيرية ) ؛ أي أن يبقى الشاعر مغلول المشاعر ، لا يلتفت إلى نفسه ، ولا يعبر عن آماله الخاصة ، ولا ينفس عن آلامه . ويظل يتتبع مشاعر الآخرين ورضاهم عنه ، حتى على حساب الدين والمبدأ والكرامة الذاتية . فالشاعر ينبغي أن يبقى حر الشعور والتعبير في آن واحد ؛ لا ييبع شعره ولا يجامل به ، ولا يقول ما لا يؤمن به . يحمل هموم وطنه وأمته وإنسانيته ، ولا يحبس عواطفه الذاتية تجاه أسرته أو محبوبته ، بل يعبر عن كل تجاربه التي يمر بها أو يتخيلها وينفعل بها انفعالا فنيا صادقا ، ولكنه لا يرضى أبدا أن يتدنس بمهاترات أصحاب الأدب المكشوف ، الذي انحرفت بهم حرياتهم إلى الإسفاف والحط من قيمة الإنسان . إن هذا الانبثاق الذاتي في الشعر هو التجديد بعينه ، وما المقلد ـ كما يقول العقاد ـ: (( إلا من ينسى شعوره ويأخذ برأي الآخرين على غير بصيرة ، أو بغير نظر إلى دليل)) ( ديوان العقاد ـ الجزء الخامس من المجموعة الأولى : 388 ) .
وأما السمة الثانية فهي الإنسانية : فإن الشاعر الحر هو الذي يتخطى بشعره الإطار الذاتي المحدود ، والإطار القومي ، إلى فضاء الإنسانية الواسع . ويحاول أن يعالج قضاياها المشتركة .
والسمة الثالثة ؛ الواقعية : فهو في أفكاره واقعي ، لا يند جموح الخيال الشعري عنده مهما حلق ، ولا تشتط به مشاعره مهما تكن فائرة ؛ ولذلك تغيب صور المبالغات الممجوجة التي تعشش في مدائح الشعراء المتاجرين بالشعر، ورثائياتهم المجتلبة، وصورهم غير المحدودة بأي حد فني والتي يخدعون بها الأسماع المبهورة . ولذلك تحظى معالجات الشاعر الحر بقبول المتلقي ؛ لأنها تخاطب عاطفته وتحترم عقله . كما أن واقعيته تجعله يعرض نفسه ( إنسانا ) كما هو :
* فهو إنسان : يحلق ـ أحيانا ـ في أجواء روحية عالية في حالات القرب من الله؛ بسبب تأثير عبادة أو مكان مقدس ، وتهبط نفسه أحيانا إلى ترابيتها ؛ فيصور ضعفها ، وطموحها للعودة إلى حالة الصفاء .
* وهو إنسان : له طموحاته الذاتية الخاصة به وبأسرته ، وله همومه العامة المتعلقة بوطنه وأمته وإنسانيته ، فهو لا يدعي أنه انسلخ عن حبه لنفسه ، وإحساسه بواجبه الأول من أجلها .
* وهو إنسان : يرى المغريات فتتحرك نوازعه الغريزية ، ولكنه يكبح جماحها بالإيمان ومراقبة الله . ومن كل ذلك ونحوه تنشأ عنده حدة الصراع التي تكتسح مساحة واسعة من شعره ، وتتنوع دلالاتها .
والسمة الرابعة عدم التأطر في قولبة مذهب أدبي جاهز : بل يقف منها موقف المستفيد الحذر ؛ فلا يتمذهب بواحد منها بحيث لا يخرج عن دوائرها المقننة ، وإنما يأخذ منها ما يتوافق مع ميوله الذاتية ، وسجيته التي فطر عليها ، فأنت ـ مرة ـ تراه هائما بالطبيعة ، فياض العاطفة ، مرهف الإحساس ، تكتنفه ظروف تسوقه إلى الكتابة فيما كان شعراء الرومانسية يكتبون فيه ؛ مثل العزلة والقلق والعلاقة الحميمة بالطبيعة بوصفها الأم الرؤوم التي يلقون بقلوبهم المثقلة بالهموم على صدرها الحاني ، ويتأثر بلغتهم . ولكنه ليس تأثر المقلد وإنما تأثر الواعي ، الذي يهضم ما يتلقاه ثم يتحول إلى جزء من زاده الشعري ، الذي يمد تجربته بخبرات جديدة .
وتراه مرة أخرى يلتقي التزامَ شعراء الواقعية في التزامهم بقضايا الأمة والمجتمع، متميزا عنهم برؤيته الخاصة . ومرة تراه يفيد من الرمزية الأسلوبية حين يحاول أن يعبر عن مشاعره المكبوتة … وهكذا فإنه لا يتقولب في مذهب معين بل يعيش حريته الكاملة في الإفادة من أي معطى من معطيات النقد الأدبي الحديث .
ولا شك أن هذا الاعتزاز بالذات ، والحفاظ على السمات الخاصة ، يبنى للشاعر شخصية شعرية متميزة ، تجعله ـ بحق ـ حرا نسيج وحده .
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.