أين الحرية في الشعر ؟؟

ينصرف مصطلح الحرية في الشعر ـ إذا أطلق ـ إلى الجانب الموسيقي العروضي وحده عند كثير من الدارسين ، ولكني أجد أن هذه الحرية هي أقل جوانب الحرية لدى الشاعر أهمية ، وأرى أن أعلاها يتبلور في أربع سمات ، أولها: الذاتية وصدق التجربة : فإن من أبرز ما يؤخذ على الشعر التقليدي ( الغيرية ) ؛ أي أن يبقى الشاعر مغلول المشاعر ، لا يلتفت إلى نفسه ، ولا يعبر عن آماله الخاصة ، ولا ينفس عن آلامه . ويظل يتتبع مشاعر الآخرين ورضاهم عنه ، حتى على حساب الدين والمبدأ والكرامة الذاتية . فالشاعر ينبغي أن يبقى حر الشعور والتعبير في آن واحد ؛ لا ييبع شعره ولا يجامل به ، ولا يقول ما لا يؤمن به .  يحمل هموم وطنه وأمته وإنسانيته ، ولا يحبس عواطفه الذاتية تجاه أسرته أو محبوبته ، بل يعبر عن كل تجاربه التي يمر بها أو يتخيلها وينفعل بها انفعالا فنيا صادقا ، ولكنه لا يرضى أبدا أن يتدنس بمهاترات أصحاب الأدب المكشوف ، الذي انحرفت بهم حرياتهم إلى الإسفاف والحط من قيمة الإنسان . إن هذا الانبثاق الذاتي في الشعر هو التجديد بعينه ، وما المقلد ـ كما يقول العقاد ـ: (( إلا من ينسى شعوره ويأخذ برأي الآخرين على غير بصيرة ، أو بغير نظر إلى دليل)) ( ديوان العقاد ـ الجزء الخامس من المجموعة الأولى : 388 ) .

وأما السمة الثانية فهي الإنسانية : فإن الشاعر الحر هو الذي يتخطى بشعره الإطار الذاتي المحدود ، والإطار القومي ، إلى فضاء الإنسانية الواسع . ويحاول أن يعالج قضاياها المشتركة .

والسمة الثالثة ؛ الواقعية : فهو في أفكاره واقعي ، لا يند جموح الخيال الشعري عنده مهما حلق ، ولا تشتط به مشاعره مهما تكن فائرة ؛ ولذلك تغيب صور المبالغات الممجوجة التي تعشش في مدائح الشعراء المتاجرين بالشعر، ورثائياتهم المجتلبة، وصورهم غير المحدودة بأي حد فني والتي يخدعون بها الأسماع المبهورة . ولذلك تحظى معالجات الشاعر الحر بقبول المتلقي ؛ لأنها تخاطب عاطفته وتحترم عقله . كما أن واقعيته تجعله يعرض نفسه ( إنسانا ) كما هو :

* فهو إنسان : يحلق ـ أحيانا ـ في أجواء روحية عالية في حالات القرب من الله؛ بسبب تأثير عبادة أو مكان مقدس ، وتهبط نفسه أحيانا إلى ترابيتها ؛ فيصور ضعفها ، وطموحها للعودة إلى حالة الصفاء .

* وهو إنسان : له طموحاته الذاتية الخاصة به وبأسرته ، وله همومه العامة المتعلقة بوطنه وأمته وإنسانيته ، فهو لا يدعي أنه انسلخ عن حبه لنفسه ، وإحساسه بواجبه الأول من أجلها .

* وهو إنسان : يرى المغريات فتتحرك نوازعه الغريزية ، ولكنه يكبح جماحها بالإيمان ومراقبة الله . ومن كل ذلك ونحوه تنشأ عنده حدة الصراع التي تكتسح مساحة واسعة من شعره ، وتتنوع دلالاتها .

والسمة الرابعة عدم التأطر في قولبة مذهب أدبي جاهز : بل يقف منها موقف المستفيد الحذر ؛ فلا يتمذهب بواحد منها بحيث لا يخرج عن دوائرها المقننة ، وإنما يأخذ منها ما يتوافق مع ميوله الذاتية ، وسجيته التي فطر عليها ، فأنت ـ مرة ـ تراه هائما بالطبيعة ، فياض العاطفة ، مرهف الإحساس ، تكتنفه ظروف تسوقه إلى الكتابة فيما كان شعراء الرومانسية يكتبون فيه ؛ مثل العزلة والقلق والعلاقة الحميمة بالطبيعة بوصفها الأم الرؤوم التي يلقون بقلوبهم المثقلة بالهموم على صدرها الحاني ، ويتأثر بلغتهم . ولكنه ليس تأثر المقلد وإنما تأثر الواعي ، الذي يهضم ما يتلقاه ثم يتحول إلى جزء من زاده الشعري ، الذي يمد تجربته بخبرات جديدة .

وتراه مرة أخرى يلتقي التزامَ شعراء الواقعية في التزامهم بقضايا الأمة والمجتمع، متميزا عنهم برؤيته الخاصة . ومرة تراه يفيد من الرمزية الأسلوبية حين يحاول أن يعبر عن مشاعره المكبوتة وهكذا فإنه لا يتقولب في مذهب معين بل يعيش حريته الكاملة في الإفادة من أي معطى من معطيات النقد الأدبي الحديث .

ولا شك أن هذا الاعتزاز بالذات ، والحفاظ على السمات الخاصة ، يبنى للشاعر شخصية شعرية متميزة ، تجعله ـ بحق ـ حرا نسيج وحده .



اترك تعليقاً