رمضان هو الشهر الذي يتربى فيه حس المؤمن بكثافة شديدة على عزائم الأمور، تلك التي لا يتوقع أبدا أن نفسه ستطيعه فيها يوما ما ، بل كثيرا ما تتأبى عليه ، وترفض الاستجابة له حين يدعوها إلى تطبيقها ، ومن ذلك : الورع ، هذا الخلق الإيماني العظيم الذي قلَّ من يأخذ به في أيامنا هذه ، لمشقته على النفس ، وعظم أمره .
إننا نرى المستفتين في رمضان يسألون عن حكم بلع الريق ، وعن الحقن الطبية ، وعن الكحل في العين ، وعن شربة الماء مع أذان الفجر ، وعن البخاخ الطبي ، وكلها أسئلة لها دلالة كبرى على ورع ناشئ عن حرص على تمام الصيام ، وعدم جرحه بأي شيء . وأسئلة أخرى عن زكاة الحلي الملبوس ، وعن الزكاة على الأقارب ، وعن حكم إخراج الزكاة للمحتاجين في الخارج ، وكلها أسئلة تنم عن ورع وحرص على قبول الزكاة .
وقل مثل ذلك في كثير من الأسئلة التي تدل دلالة واضحة على أن رمضان أنعش الحساسية المرهفة في نفس المؤمن ، التي يجب أن تكون منتعشة دائما في سائر أيام حياته ، ولكنها الدنيا ، والتشاغل فيها بالتكاثر والتفاخر ، مما يلهي ، ويطغي . فأين هذه الأسئلة طوال العام عن الرشوة والربا ، وعن المسابقات المشبوهة ، والمعاملات المالية الغامضة ، وعن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان في شتى ضروب الحياة ، باسم الجهل وعدم العلم بالأحكام .
الورع سمة الأتقياء الأنقياء ، وهو من أجل قواعد الدين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، والأصل فيه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (( الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه )) . فبين الحلال والحرام الواضحين ما قد يجهل المسلم حكمه ، فيبقى في منزلة الشبهات ، فمن تركها لله خشية من الوقوع في الحرام ، فقد أمن ، ومن اجترأ عليها فإنه قد عرض نفسه للوقوع في الحرام ، ومن يقترب من الحمى يوشك أن يرتع فيه . ولذلك جاء الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) .
وقد تحول هذا المفهوم النظري في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمل يومي يعيشه صلى الله عليه وسلم ، الذي وجد تمرة ذات يوم وهو سائر في طريقه فقال : (( لولا أني أخاف أن تكون من إبل الصدقة لأكلتها )) متفق عليه .
والورع ليس ادعاء ولا حديثا يطيب للسمار ، بل هو عمل يشق على النفوس الواهنة المشغوفة بالدنيا ، حين تشتبه الأمور فتتمتم : ما دام أن الأمر فيه خلاف فلا بأس إذن ، وما دام الأمر ليس واضحا فلا حرج علي ، ويذهب يسوق الأعذار لنفسه كلما تبهرجت له حلة من زينة الحياة الدنيا ؛ حتى لا يفرق بين حلال وحرام .
والذي انتشر نوع غريب من الورع ، فأنت ترى ـ كما يقول ابن الجوزي ـ (( كثيرا من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة ، ولا يتحاشون من غيبة ، ويكثرون من الصدقة ، ولا يبالون بمعاملات الربا ، ويتهجدون بالليل ، ويؤخرون الفريضة عن الوقت ، في أشياء يطول عددها من حفظ الفروع وتضييع أصول ، فبحثت عن سبب ذلك فوجدته في شيئين : أحدهما : العادة ، والثاني غلبة الهوى في تحصيل المطلوب ، فإنه قد يغلب ، فلا يترك سمعا ولا بصرا ، وفي الناس من يطيع في صغار الأمور دون كبارها ، وفيما كلفته عليه خفيفة أو معتادة ، وفيما لا ينقص شيئا من عادته في مطعم أو ملبس … حتى قال يرحمه الله : فالله الله في تضييع الأصول ومن إهمال الهوى ، فإنه إن أهملت ماشيته نفشت في زروع التقى )) .
فلنتعلم من رمضان فن الورع ، قبل أن يتصرم من أيدينا إذ ما أحوجنا إليه في زمننا هذا وقد تشققت الشفاه عطشا لكل قرش .. أي قرش دون التفات إلى مصدره .. والله المستعان .
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.