شرف تتوق إليه مطامح العابدين ، وتشتاق إليه أرواح المتقين ، ويتنافس فيه طلاب الدرجات العلا في الجنة .. ذلك هو شرف خدمة المحتاجين، والركضِ في طلب راحتهم ، والبحثِ عن مكامن خللهم ليسد من غير أن يعرضوا لمهانة أو حرج ، فمن نال هذا الشرف الكبير .. من ؟
إنه ذاك الذي اغتسل من أدران حب الذات والأنانية فانتفض حرا راشدا بإذن ربه، يسعى في حاجة إخوانه بأريحية ناضرة ، لا ينتظر الشكران من أحد : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9)} [سورة الإنسان ].
إنهم أولئك الذي تلفتوا يمنة ويسرة فلم يجدوا في الدنيا ما يستحق أن يطلب نظير إحسانهم فرفعوا أعناقهم إلى السماء ، يبتغون فضلا من ربهم ورحمة ، لقد علموا بأن أكثر الناس جهلا بالخير أعلاهم صوتا في طلب الأجر العاجل عليه ، فلم يترقبوه إلا من الله .
إنهم قوم لم يقبلوا على عملهم منتظرين شيئا من لعاعة الدنيا لتزيد من غناهم ، ولا مادح ليفسد عليهم ـ بالإشهار ـ نيتهم ، ولا إلى أمر من أمور الدنيا الفانية ؛ يصرف هممهم من طلب الفردوس الأعلى إلى قيل الناس وقالهم، ولكنه عمل تدفق من قلوب فاضت بحب الإحسان ، ومن عيون طفحت بمعاني الشكران لله المنان على ما أولاهم من النعماء ..
دعوني أيها القراء الأعزاء أحمل عبق أنفاسهم الكريمة لأستحيل باقة ورد وقارورة عطر تنعش الأرواح قبل الأبدان .
دعوني أقتبس من طيوف حركتهم في الأزقة الضيقة ، وبين الجدارن المهترئة ، وفي أجواف البيوت المختنقة ، فأرفرف بأجنحة الضياء في سماء الإحسان .
دعوني أستعر روح حلمهم ، وعذوبة أحاديث المعروف في جلساتهم مع الأيتام والأرامل والمساكين ، فأكون أفصح كاتب وأرق إنسان .
لقد عَرف هؤلاء المختبئون خلف ستر الإخلاص الرقراقة أنه لا سرف في الخير فقدموا دون حدود ، دون أن يرجوا كلمة شكر منقوشةً على لوحات زاهية ، وإن فرحوا برائحة القبول الزكية ـ إن شاء الله ـ في الدنيا قبل الآخرة ، مصداقا لحديث مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه ، قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ .
إن الحقيقة التي عرفها هؤلاء ويجب أن نعيها نحن أن القضية ليست إشباع بطن ، ولا كسوة عار فحسب وإن كانت في حد ذاتها جليلة القدر ، ولكن الأمر أكبر من ذلك.. (( إن الفقر إذا ذهب إلى بلد قال له الكفر خذني معك )) ؛ كما قال أبو ذر t، ولذلك قال عمر t : (( لو كان الفقر رجلا لقتلته )) ، لأن الفقر يجر الرذيلة بعنقها ، ويجريء على الحسد والسرقة ، ويشرع للجريمة كل أبوابها ، ولذلك فقد أولى أولياء أمورنا قضية الفقر أهمية خاصة ، ظهرت في هذا الدعم الكبير للمجال الخيري ، ولا سيما جمعيات البر ، إلى جانب عدد من المؤسسات التي حولت جزءا كبيرا من نشاطها إلى داخل المملكة ، لتضع أيديها في أيدي هذه الجمعية لتتوحد الجهود في معالجة قضية واحدة.
إن آثار رجال البر وآفاق نفعهم ممتدة الظلال ، دانية الثمار في كل ميدان من ميادين الحياة : إنهم يشاركون رجل الأمن في الحفاظ على أمن البلاد والعباد ؛ حين يطاردون فلول الفقر الذي يعد من أكبر أسباب الانحراف والعدوانية الاجتماعية . ويشاركون رجال التعليم في مهمتهم حين يكفون المحتاج لقمة عيشه فلا يضطر أن يترك التعلم من أجل البحث عنها ، ويشاركون الدعاة في قوافلهم ، حين يوجهون تلك الأسر المحتاجة والمشغولة بالبحث عما يقيم أودها يوجهونها لصلاح دينها ودنياها ، كما يشاركون الطبيب والخطيب والمربي … فجزاهم الله كل خير عن الإسلام والمسلمين .
إنها تحية مزفوفة إلى رياحين رمضان ، الذين أخذ منهم عملهم الخيري في سبيل إسعاد المحتاجين كل وقتهم في رمضان ، بينما نحن فرغنا لكل ما نريد ..
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.