الحج تلك الرحلة الإيمانية التي تنطلق فيها أفئدة المؤمنين من قيود الأرض ، وجواذب الماديات ، إلى رحابة التسليم التام للخالق العظيم ، والانقياد لأوامره دون تردد ..
هذه الرحلة التي تعيش أمنية غالية تتلجلج في صدر كل فرد مسلم مهما ابتعدت بقعته وشط مزاره .. حتى لتجد عينيك تهملان وأنت تستمع إلى إخوتنا القادمين من الخارج ، وهم يروون ـ عبر الأثير ـ قصص الشوق والهيام برؤية الكعبة المشرفة .. ومشاعرهم الفياضة التي لا يصفها غير تهدج الصوت ، واختلاط الحروف ، والعبرات المسكوبة الصادقة .. حين تقع عيونهم على بنائها المهيب ..
روى لي أحد الموثوقين أن إحدى الحاجات القادمات من أوربا ، كانت تجمع المال للحج منذ ثلاثين عاما ، وحين حانت لها الفرصة ، وقدمت في الطائرة التي تقل مجموعة كبيرة من أمثالها ، ولاحت لها أنوار جدة ، بدأ الشوق يشتعل في قلبها ، وما إن نزلت من سلم الطائرة حتى هوت على الأرض ساجدة لله شكرا .. وطال الانتظار .. وطال .. فذهب مدير الرحلة ليستعجلها .. وإذا هي قد أسلمت الروح إلى بارئها ..
من خلال حج هذا العام شهد كثير من الحجاج التنظيم الرائع الذي أنهى مشكلة الجمرات التي ظلت هاجسا مخيفا لعدة سنوات ، وشهد التخطيط الدقيق لمنى ، ومشروع الخيام المكيفة المريحة غير القابلة للاشتعال ، التي أغلقت ملف الحرائق نهائيا بفضل من الله تعالى ، وأنهت فوضى الخيام السابقة ، وهو ما نؤمل أن يكون في عرفات كذلك بإذن الله، وشهد رجالات الوطن وهم في كل لفتة من لفتات العين ، ينظمون ، وينشرون الوعي الأمني والشرعي ، ويضحون بأعصابهم وراحتهم من أجل راحة ضيوف الرحمن وصحة حجهم .
بل شاهد ـ كذلك ـ المواطنين وهم يسهمون في تقديم الخدمات للحجاج بشتى صنوفها ، مقتدين بخادم الحرمين الشريفين ومبرته التي لا تزال تقدم خدماتها لحجاج بيت الله منذ سنوات طويلة ، فما أكثر المبرات والجمعيات الخيرية التي تهدي الوجبات الجاهزة الصحية التي تقدم مجانا بمئات الآلاف في علب فاخرة في المشاعر ، وتقدم العصيرات والألبان والمياه ، بل تقدم الكتب بالآلاف لرفع مستوى الوعي الشرعي .
لقد كان حج هذا العام مثاليا حقا .. سادت صور كثيرة من الإيثار والمحبة بين المسلمين ، وبرزت عدد من الوفود بتنظيمها الدقيق جدا ، مما ينم عن توعية سابقة قامت بها دولهم قبل حضورهم ، مما أسهم ـ حقا ـ في زيادة نسبة التنظيم في الحج ، وهو ما نتمناه من بقية الدول .
لا أستطيع أن أسجل كل جوانب الإضاءة في حج هذا العام ، ولكن يكفي أن أقول إنني لم أشاهد أي مظهر من مظاهر التعب أو الإعياء أو حتى الشجار الذي من الطبيعي أن يحدث في حشد ضخم مثل هذا .
ولي هنا اقتراح أرجو أن يتاح المجال للتفكير فيه ، ودراسته بتوسع من قبل المسؤولين، والمختصين الشرعيين والأمنيين ، ولو كان تنفيذه بعد حين ..
المطاف لا يزال حتى الآن مزدحما جدا ، ويشكل مشكلة حقيقية تحتاج إلى حل ، والجهود المبذولة في الحرم جهود ضخمة جدا ، ولكن مساحة المطاف بالنسبة للعدد الهائل الذي يتدفق عليه خلال أيام الحج كلها ما عدا يوم عرفة ، يجعل من المستحيل الحل المثالي للمشكلة دون عدد من التغييرات في الحرم ، قد يكون طرحها اليوم جريئا ، ولكنه سوف يحدث مستقبلا لا محالة .. إلا أن يشاء الله .
تتمثل هذه الاقتراحات في التالي :
1. تأخير مقام إبراهيم إلى جوار مبنى بئر زمزم الحالي ، مع وضع إشارة تدل عليه في مكانه الطبيعي ، مع العلم أن مكانه الحالي ليس هو المكان الذي كان فيه سابقا ، بل هو المكان الذي أخره إليه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ مما يدل على جواز تأخيره ، وعلماؤنا يفتون بجواز صلاة سنة الطواف في الاتجاه الذي فيه المقام ، بل في الحرم كله ، إذا لم يمكن الصلاة عنده مباشرة .
2. نزع رخامات الخط الأرضي الذي ينطلق من جهة الحجر الأسود وتضييع معالمه ، حتى تنهى مشكلة توقف الطائفين للبحث عنه ليقوموا بشعيرة التسمية والتكبير ، وتنهى مشكلة أكثر النقاط ازدحاما في الحرم في أوقات الذروة ، فإن المسلم لم يطلب منه هذه الدقة المتناهية في محاذاة الحجر إذا كان بعيدا عن الكعبة ليشير إلى الحجر ، وتكفي الأنوار الخضراء الموضوعة على جدار الرواق المقابل للحجر . وهنا ستتسع مساحة التقدير بين الحجاج فتقل كثافتهم في نقطة واحدة ، وهي هندسيا تتسع كلما ازداد البعد عن الكعبة .
3. هدم الرواق العثماني في داخل الحرم ، فهو يشكل عائقا حقيقيا دون توسع دائرة الطواف ، وأعلم ما في ذلك من إشكالات يمكن حلها عن طرق كثيرة.
4. منع الصلاة داخل الساحة خلال الطواف ، فإن تشكيل دوائر من قبل بعض الحجاج ليقوم أحدهم بأداء نافلة الطواف من أكثر ما يثير الغضب في نفوس الحجاج ، ويعرقل سيرهم ، ولعل تأخير مبنى المقام يسهم في حل هذه المشكلة ولو بعد حين .
هذه بعض المقترحات التي أرجو أن تتقبلها الأمة من أجل مصلحة عظمى في شعيرة عظمى .. وأرجو من الله جميع الحجاج حجا مبرورا وذنبا مغفورا ..
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.