(( رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه )) ، كثيرا ما نتعامل مع هذا النص بطريقة سلبية، فنحن لا نرى له إلا جانبا واحدا فقط ، هو القناعة بالموجود ، وعدم الطموح إلى أي نجاح جديد ، وذلك بسبب تضخيم جانب الضعف في النفس ، والنظر إلى الإمكانات المتاحة أنها أقل بكثير مما يعرض عليها من مهام ، أو ما قد تمتد إليه العين ، ويتمناه القلب، فيكون هذا العذر جاهزا إلى درجة إهانة الذات والتقليل من شأنها .
حقا إن من الخطأ أن يبحث الإنسان منا عن مكان ما أو يرضى به وهو لا يملك أدواته ، ولا تسعفه فيه مواهبه ، وإنما ليحقق به كسبا نفسيا ، وجاها اجتماعيا ، فإنك لن تستطيع أن تكون مستشارا في شركة صرافة وأنت لم تدرس الاقتصاد والمحاسبة ، ولم تكسب أية خبرة عملية سابقة ، ولن تستطيع أن تدير صحيفة وأنت لم تعمل يوما في هذا المجال اللاهث ، ولن تكون شاعرا إذا لم تكن قد ولدت شاعرا .. وهكذا …
ولكن ذلك لا يعني أنك تهضم مواهبك الأخرى ، وقدراتك الكامنة ، بحجج شتى قد يكون منها هذا النص ، أو نص آخر من كتاب الله تعالى يقول فيه المولى العزيز معلما عباده الدعاء : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } . حيث يضعه أيضا كثير من الناس في غير موضعه ، فيحتجون به على خورهم وتخاذلهم عن تفعيل طاقاتهم ، واستثمار إمكاناتهم ، مع أنه في غاية التكليف ، وذروة استنفار جميع الطاقات ، فإن الإنسان لا يكلف إلا بما في طاقته ، فهل اكتشفت طاقتك كلها ، ثم استثمرتها ؟
الواقع أننا نعمل بالقليل من طاقاتنا ، والباقي نهدره في كثير من الجلسات الفارغة ، والنوم المتدافع .. الذي يطلب بعضه بعضا ، والتذمر من الواقع الذي نعيشه بأي طريقة كانت ، وإدانة كل من حولنا بأنهم هم السبب في قعودنا وعدم تفعيلنا ، ثم نوجه سهام الحسد والحقد والانتقاد إلى كل من يعمل ؛ بأنه أناني لم يترك لغيره فرصة ليعمل إلى جواره ، وأنه إنسان معجب بنفسه ولا يرى أن غيره قادر على ما يقوم به ، وأنه يبحث عن الشهرة ، وأنه يتملق رؤساءه ، وأنه .. وأنه ..
منتهى السلبية .. نعم هذه منتهى السلبية ، وإلا فأين المبادرة والطموح ؟ وأين إثبات الوجود الفعلي بالعمل ؟ بل أين مشاركة الناس في نجاحاتهم والفرح لهم بها بوصفها نجاحا لكل المجتمع ؟ لماذا لا أشعر بالنجاح ولا أطرب له إلا إذا حققته أنا .. ويل المجتمع كله ممن تضخمت ( أناه ) ولم يعمل إلا لذاته ، وهو يوهم من حوله بالتجرد وخدمة الآخرين، والإخلاص لدينه ولوطنه وأمته ..
أليس هناك مكان غير هذا المكان الذي شغله فلان وفلان ؟ لماذا لا أتركهم يعملون وأبحث أنا عن مكان آخر يكون فيه وجودي إضافة للحياة والمجتمع الذي أعيش فيه ، لا إحلالا مكان من كان يقوم بدور لا بأس به فيه !! فيكون عملي تعطيلا لطاقة أخرى ؟
إن النفس الإيجابية يصل بها الأمر إلى إبداع المكان الجديد للقيام بمهامه ، لا إلقاء الآخرين في البحر كي يقوم صاحبها بدورهم ، وربما أقل .. من يدري ؟
إن نفسا طامحة للخير ونفع الناس مثل نفس يوسف عليه السلام شجعته أن يقف بشموخ ( لا بذلة الجشعين في المناصب ، المتذللين في معابدها ) أمام ملك مصر ليقول له: { اجعلني على خزائن الأرض } ، الأمر عظيم ! إنه يطلب أن تكون أموال الدولة كلها في يديه ، أليس ذلك مظنة شك في أهدافه ( حاشا نبي الله عليه السلام ) ، ولكنه علم أن مصر قادمة على محنة عظيمة قد يكون فيه هلاكها إذا لم تعالج بحكمة وحزم ومداراة ، وعلم من نفسه قدرة على ذلك بتأييد الله تعالى له ، فطلب هذا المنصب الخطير ، الذي تخشى فيه العواقب بشكل خطير ، فهو لن يتربع على كنز من الذهب في سعة من العيش ، بل طلب أن يتحمل مسؤولية الأمة ليصل بها إلى بر الأمان بإذن الله تعالى في أشد ضائقة اقتصادية تمر بها في التاريخ .
إن الهروب من المواقع التي تتطلب مزيدا من العمل والجهد بأي حجة كانت هو هروب من المسؤولية الجمعية ، التي ينبغي أن يتصدى لها كل فرد من المجتمع في مكانه اللائق به ، دون هضم للنفس ، ودون إقحام لها في غير ما خلقت له ، فـ(( كل ميسر لما خلق له )) ، كما ورد في الحديث الشريف .
فهل عرفت قدر نفسك ؟
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.