وأخيرا غرد العصفور !

بقي أكثر من عشرين عاما يجمع تراث الأحساء من بطون الكتب القديمة ، تلك التي أصبحت في حكم المخطوطات لندرتها ، ومن بقايا المخطوطات المطروحة بين الطين والعجين جهلا وخوفا ، ومن رفوف المتاحف والمكتبات المعمرة المهجور منها والمهمل ، وأنفق جزءا كبيرا من أمواله دون حساب ، والجزء الأنضر من عمره بكل سخاء ، رحل دون ملل ، وتعب دون راحة ، وتجاهل لوم الأقربين ، وعتاب الأبعدين ، ولم يستعجله نداء المراقبين لجهده ،  العاجزين عن مثله ، المشتاقين ـ وهم على أرائكهم ـ إلى ثمرات سهره وكده ، وهم يصرخون فيه : ” حرام أن تدفن كل هذا الجهد ، لماذا تأخرت عن إصداره ” ، ولكن عاشق التراث الأحسائي الأستاذ عبد العزيز بن أحمد العصفور كان يستمع بصبر ، ويصبر بحكمة ، ويحكم صنعته ، ويصنع مجده بصمت ، ويصمت حين يهذر الآخرون ، ويعوم مختبئا في بطون المحار حين تطفح الطفيليات على السطح .

وأخيرا .. ( وقَّع ) ( العصفور ) على أجمل الأفنان ، وغرد بأعذب الألحان ، لافتا نظر القراء إلى تراث أحسائي مطمور تحت ركام النسيان والتواضع الفج ، فقدم كتابه :  ( فتاوى علماء الأحساء ومسائلهم ) في مجلدين ، أهداه إلى من يريد أن يعرف علم علماء الأحساء وليس ما شغل به كثير من كتابنا المحليين ( تراجمهم فحسب ) ، إلى من يريد الفقه المسلسل إلى أئمته الأعلام وفق قواعد شرعية منضبطة ، وليس فقه من يجرأون على الفتوى، وينسبون اجتهادات القدماء إليهم دون حتى إشارة إلى منابعها الأصيلة .

إن تعاملنا مع تراثنا المحلي يجب أن يخرج عن إطار مضغ التاريخ ، واللت والعجن  في قضايا لم يعد فيها مجال للكشف عن جديد ، إلى محاولة التوغل داخل هذا التراث ؛ لإبراز ملامحه الحقيقية ، وتحقيق مخطوطاته المظلومة من قبل ذوي القربى ، والشجاعة في دراستها وبيان حقائق المعرفة بين سطورها ، والجرأة في تحديد أطرها المنهجية ، دون خوف من تحمل عوائدها في الزمن الراهن ، من اختلافات عفا عليها الزمن ، فـ{ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } . وكلٌ مؤاخذ بما كتب ، وليس لنا أن نلغي تراث عالم لمجرد أننا نختلف معه في قضية ما مهما كانت هذه القضية ، فإن الحكمة ضالة المؤمن ، ونتاج كل فرد من الأمة ملك للأمة بأسرها ، وها بين أيدينا الكشاف للزمخشري وهو مفسر معتزلي ، ومع ذلك فإننا نتعامل مع تفسيره ، ونستفيد من علمه ، مع التنبه إلى ما بثه من اعتزالياته المتلبسة بأردية النحو واللغة والبلاغة ، وقد كفانا من التقطها بالمناقيش ، ووضحها في هامش الكتاب ، فكيف بمن نختلف معهم في أمور أيسر من ذلك بكثير ؟!

إن مجال الاختلاف ومداه هو الذي نبقى متخلفين فيه إلى درجة محزنة حقا .. فبدلا من محاولة تقبل رأي الآخرين ، تستعر بين جوانحنا معارك الشرر المستطير لمحاولة إقناع الآخرين بآرائنا . إن هناك فرقا كبيرا بين أن نكون مصيبين حقا ، وبين أن نظن أننا مصيبون . وبين أن نختلف ونبقى متفقين في بعض آرائنا ، وبين أن نصنع من خلافنا في جزء يسير حاجزا هائلا يحجب عنا أنوار اتفاقنا .

ثم .. لماذا لا نختار لجهدنا ما يستحق أن نصرفه فيه ، وهو ما يكون إضافة إلى مكتبتنا العربية والإسلامية ، كهذا الكتاب القيم ، وليس القفز على حصان الشهرة بكتب أشبه ما تكون بكتب الطبخ والأزياء التي تسجل أعلى نسبة في المبيعات بين النساء في معارض الكتب عادة .

إن المثقف إذا لم يكن ذا روح مضحية باذلة ، سوف يظل على هامش الحياة       لا محالة ، يلاحق السوق وتقلباته ، ويكيف مشروعه الثقافي حسب أجواء الطقس ، تماما كتجار الملابس ، بل سوف يتحول إلى تاجر من تجار توزيع الكتب ، ليس لهم منها غير المال وحده ، أومجرمي النشر ، الذي ألفوا امتصاص دماء المؤلفين ، والرمي بعقودهم في  سلة القهر والظلم قبل سلة المهملات .

لا نزال ننتظر ـ في غير عجلة ـ بقايا الكنوز الأحسائية من كف هذا الباحث الصبور : الأستاذ عبد العزيز العصفور ، ومن غيره ، فقد مللنا من الإشارة إليها ، والتغني بأمجادها ، وهي محجوبة عن عيون زمننا ، وأيدي باحثينا.



اترك تعليقاً