فن التيئيس الإيجابي

تأملت في عدد من مواقفنا من مطالب أولادنا، بدوافعها ومسبباتها، ثم مآلاتها، فوجدتها مدفوعة بالحب غير المقنن، والحرص غير المحدد، والجبن غير الواقعي، والرؤية الناقصة لشخصياتهم، ثم تؤول إلى حالين: القبول التام بين الطرفين بعد حوار أو نقاش أو جدال، أو إلى رضا أحد الطرفين على حساب رضا الآخر، في حين يشد كلٌ طرف رداء الموضوع إلى جانبه، وقد تؤول إلى زعزعة شديدة في نفس الولد (ذكرا كان أم أنثى)؛ فيظل يدفع الثمن طوال حياته، بل يدفع الطرفان ضريبة جهل أصول التعامل فشلا وقهرا وأمراضا بدنية ونفسية.

ورأيت بعد تأمل آخر وتجربة واستشارات مستفيضة، أن من أبرز مسببات الأزمة القائمة في العلاقة الوالدية (أما أو أبا) هي التذبذب في القرار اليومي، وتأرجح شخصيتي الوالدين أمام الأولاد بين الإيجاب والنفي، في أية قضية من القضايا الحياتية اليومية، ومؤشر ذلك – من و جهة نظري – عدم نجاح الولد في توقع القرار الذي سيصدر من الوالدين إزاء طلبه، وإذا صدر فإنه لا يعني أنه النهائي، فلا تزال هناك مسافة متبقية للوصول إلى القرار المطلوب من قبل الولد وغير المرغوب في نفس الوالد، وهنا تنشأ حالة من العذاب النفسي الدائم والمتجدد بتجدد المطالب المتتابعة، والتي لا يمكن أن تكف ما دام الوالد مع الولد في ارتباط أسري واحد، وما دام الولد في ولاية والده، وفي كنف أمه، ويمكن سحب هذه القضية على العلاقة بين الزوجة وزوجها كذلك؛ باعتبارها تحت ولايته،  وتحتاج في تسيير أمور حياتها إلى قرارته اليومية.

إن الإدارة التربوية داخل إطار الأسرة محتاجة إلى ثلاثة اتجاهات في إجابة المربي للمتربي، أو الولي لمن هم تحت ولايته، هي: لا، ونعم، وفيما بعد.

والمتربي في حاجة إلى كل هذه الإجابات؛ لتكتمل شخصيته وتتوازن، لا بد أن يسمع (نعم) ليحس بقيمته عند مربيه، و(لا): ليستعد للاءات الحياة القادمة، وفيما بعد: ليتعلم الصبر وانتظار الفرص.

ولكنه إذا لم يجب إلا بنعم في كل طلباته، عاش في دائرة الحماية الزائدة، والتي تجعله ينشأ ضعيف الشخصية، بارد الأحاسيس تجاه الآخر، مستبدا؛ يرى كل شئ في أيدي الآخرين حقا مشروعا له شخصيا، خائر القدرة أمام أعباء الحياة، اتكاليا؛ لا يعيش إلإ على موائد غيره، ممسوخ الرجولة (ولدا)، ضعيفة القدرة على إدارة حياتها وبيتها (أنثى).

وإذا كانت الإجابة بـ:(لا)، دائما، عاش الولد مكدر الحياة، تعيس النفس، فقير الشخصية، كسير القلب، مشلول الإبداع، قليل المبادرة، هامد الجرأة، يحس بالحرمان الشديد، والكراهية المتراكمة لمن سلبه لذة الحياة، ينظر إلى الآخرين بعين الحقد، وربما أصبحت شخصيته في مستقبل أيامه عدوانية انتقامية، وربما انفجر يوما ما بعد صمت وانكفاء، وحينها لا يدري الوالد ماذا تخترق شظايا القنبلة من القلوب والرؤوس!!

وإذا كانت الإجابة بـ: (فيما بعد)، دائما، تمطت الحياة في عينيه، وتثاءب كل مطلب من مطالب حياته اليومية، وأحس بالقهر والإذلال بسبب مماطة والديه له، وخلف ذلك في نفسه سلوكا مشينا، يجعل من شخصيته مترددة ضعيفة في اتخاذ أي قرار في المستقبل؛ فالأولاد يتعلمون ما يعيشونه، لا ما يلقٌنونه.

ومن أجل نفس متوانة سوية لا بد من دراسة أي مطلب يومي بالقدر الذي يستحقه، واتخاذ قرار ثابت سريع بقدر الاستطاعة، على أن تكون (نعم) هي سيدة الإجابات، ما دام الأمر مباحا، وغير مضر: فإن كثرة النواهي في حياة الطفل والمراهق تقلق مزاجه، وتربك تربيته، وتجعل مستقبله على جناح طائر.

إن (لا) مهمة، ومهمة جدا، ومريحة جدا؛ لأنها قرار ـ ولكن لا بد أن تكون قرارا نهائيا لا رجعة فيه، إذا سمعها المتربي فإنه يتوقف فورا عن المطالبة، على أ لا تكون مرتجلة، ولا ظالمة، بل مفسٌرة تفسيرا يقنع الولد بجدواها، وأنها من أجل مصلحته هو، فإن اقتنع وإلا فإن الموقف لن يتغير، ليتعلم أن القرار النهائي ليس في يده، وأنه قرار ثابت مهما تلته من محاولات، وهنا يرتاح المتربي من الركض خلف المربي، أو الولي، أو الزوج، أو المدير، أو القائد.. ، ويرتاح الولي كذلك، وتقل فرص الجدل الزائد، والنقاش الحاد بين جميع الأطراف، لتكون الفرصة مهيأة لهطول أمطار الحب والوئام على صعيد الأسرة .. إنه نوع من التيئيس، ولكنه تيئيس إيجابي مريح .. أليس كذلك؟



اترك تعليقاً