يطول الأمد ببعض المدراء على كراسيهم، حتى يخيل إلى أحدهم بأنه امتلك هذا المنصب، وامتلك المؤسسة كلها، ثم يتعاظم حتى يرى أنه امتلك أو كاد حتى الموظفين، فيبقي ويطرد على أساس العلاقة الشخصية، ثم تتفرع جذور كرسيه العتيد؛ فيخيل لأم عينيه أن أحدا ـ مهما أوتي من القدرات الإدارية ـ لن يستطيع أن يقوم بهذا العمل (الجبار) الذي يقوم به، وأنه لا يوجد شخص لديه الإمكانات (غير البشرية) التي يمتلكها، ثم تكبر نفسه في نفسه؛ فيرى أنه بلغ مبلغا من الجودة والإتقان والإبهار؛ بحيث لا توجد عيوب في أسلوبه الإداري، ولم يولد ـ بعد ـ من يمتلك الجرأة على تقويمه في سلوكه الإداري؛ إذ لن يوجد ـ كذلك ـ من يمتلك مخزونه من الخبرة فيه.
هكذا يرتسم في مخيلته!! بل يحوله الوهم إلى واقع في حياته، فيتصرف على أساسه؛ فإذا به يرخص أصدقاءه، ويفقد أعز معاونيه، وربما سلب الآخرين حقوقهم الأدبية، وتعامل بتعال وفوقية؛ فيبني بسكينها الحادة حواجز تسد الأفق أمامه، فلا يرى إلا نفسه!! وهنا تتباعد الأيدي والأبصار، والطاقات المبدعة بالذات، التي لا تتنفس إلا برئتي الحرية والتقدير، ويبقى معه الذين لا يجدون إلا أن يبقوا لأي سبب كان.
ولو سمح لوخزة واحدة تصل إلى جلده الطري الناعم؛ لاستيقظ فورا، ورأى الواقع التعيس الذي يعيشه، ولقرعت أذنيه حكمة المجربين من قبله: إن المناصب لا تدوم لواحد/ إن كنت لا تدري فأين الأول؟ فاعمل لنفسك في الحياة فضائلا/ فإذا عُزلت فإنها لا تعزل. نعم .. صدق الناظم، وصدق ـ أيضا ـ من يقول: لو بقيت لغيرك ما وصلت إليك.
وفي لحظة ما لا يدري الإنسان متى موعدها، سوف يغادر هذا المدير كرسيه بلا شك، ويترك خلفه أمرين: ذكرا، وإنجازا.
فإن كان قد لامس أحاسيس العاملين معه، وعمل معهم فريقا واحدا، وقربهم منه، فسوف يحسون بأن عضوا من أعضائهم غادر موضعه، فهم عليه محزونون آسفون، وسيملأون الحياة بعطره، وإلا فسوف يحسون بأن ثقلا من على رؤوسهم قد أزيح، وعقبات صماء كانت في بوابات طريقهم قد انفرجت، وهناك تنطلق الطاقات المكبوتة، وتنهض المشروعات العملاقة، حين يصافح قلوبهم قبل أيدهم قائد متطلع ـ أبدا ـ للاستمتاع بالعمل الجاد المثمر، مع استمتاعه بحب الناس له؛ لأنه احترمهم، وهبط من قُمرة القيادة الإدارية، التي لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها آنذاك!!
وأما الإنجاز الذي تركه، فإن كان مما امتن الله به عليه من فضله، فكان من صنع يديه، ومن ثمرة جهده، في نية صالحة خالصة، فسوف يُحفظ له دنيا وأخرى، وإن كان من عَرَقِ الآخرين وجهدهم وبنات أفكارهم، فجيَّره لسجله الخاص، فهناك سوف يتكشف الأمر لذي عينين، وتغيب الأسئلة تحت عين الضحى، وقد قالت أنديرا غاندي يوما: “لقد أخبرني جدي من قبل بأن هناك نوعين من الناس: أشخاصا يقومون بالعمل، وأشخاصا يتلقون المديح على هذا العمل، وقد أخبرني بأن أحاول أن أكون المجموعة الأولى؛ حيث تكون المنافسة شديدة”. أقول: وحيث يكون الأجر أعظم عند الله، فأن تكون أنت الذي غرست الفسيلة، خير من أن تكون أنت الذي تأكل ثمرات نخلتها، هكذا أتصور على الأقل.
لقد تغير نمط التدوير الوزاري والجامعي وكثير من الدوائر الحكومية، تغير نحو الأفضل؛ حين أصبح المسؤول الأول لا يستمر لمدة تزيد عن أربع سنوات، بل سنتين في بعض النظم الإدارية، ولهذا فوائد كثيرة حتى له، فهو سيبتعد عن ترسيخ دعائم (شخصانيته المتفردة)، إلى محاولة وضع خطط قادرة ـ في مدة محددة ـ على تحويل رؤيته التي يحملها لهذا المجتمع/الأمانة، إلى إنجازات كبيرة، وتحولات تاريخية، يتقدم بها هذا الوطن العظيم، الذي نحا قادته ـ رعاهم الله وسدد خطاهم ـ نحو التغيير الإداري والوزاري والشوري والتشريعي، حتى أصبح التغيير الإداري ثقافة للمجتمع، بدأ يتقبلها، ويفرح بها على جميع المستويات، بعد أن كان تدوير مدراء المدارس كارثة نفسية تمر بالمؤسسات التعليمية وأفرادها!!
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.