غبار الهجير

في استفتاء لجريدة الرياض تفاجأ الوسط الفني في الدول العربية بنتيجة مبهرة؛ احتلها مسلسل (غبار الهجير) الذي بثته قناة (مجد) المشفرة في شهر رمضان المبارك؛ جعله في الصدارة بين كل المسلسلات الرمضانية التي بثتها جميع القنوات العربية، بل نال درجة كاسحة، وصلت إلى 91%، فيما نال أحد ممثليه أكثر من 50% من بين جميع الممثلين الذين حققوا شهرة عريضة في السنوات العشر الأخيرة، وفي أعمالهم الرمضانية على وجه الخصوص، بينما هو لا يتمتع بالشهرة ذاتها.

واختلطت الآراء بحسب التوجه الذي تحمله المنتديات الحاسوبية، فمن فرح مسرور بنتيجة تعطي العمل الفني الإسلامي في تجاربه الأولى أولية متقدمة، على المتمرسين المحترفين، ومن رافض تماما لنتائج الاستفتاء؛ واتهامه بأنه تم بطريقة (انشر تؤجر)، مع أن الجريدة يفترض أن تكون حيادية تماما، وقراؤها من جميع أصناف الناس، وليست خاصة بتيار فكري معين، أو طيف ما!! كما أن النتيجة لم تكن وسطية، ولا حتى مقاربة، بل كانت حاسمة قوية، وعدد المشاركين كان كبيرا جدا. والقناة مشفرة، بينما المسلسلات الأخرى بثت على قنوات غير مشفرة، فكان من المتوقع أن يكون التصويت للأخيرة أكثر.

وبعيدا عن كل ذلك سأقول رأيي في (غبار) الهجير بحيادية، وقد شاهدت معظم حلقات المسلسل، لكوني مؤمنا بقيمة الدراما وثقافة الصورة، ومحاولة استثمارهما فيما يعود على المجتمعات المسلمة بالتطوير والتنوير وبث روح الإيجابية في الأمة.

طرح المسلسل قضية إنسانية، تتلخص في شخصية (محمد) الذي يبدو ضعيفا، صاحب عاهة، مجردا من كثير من التأهيلات التي يقبل عليه الناس ـ في العادة ـ من أجلها. بينما هو صاحب قلب طيب، ويحب خدمة الآخرين، ولكن الأحداث تجري معاكسة له تماما، فهو مدفع بالأبواب، ذو مظهر بائس، وتأتأة شديدة، تموت أمه فيعيش حرقة الحرمان منها في مشاهد مبكية، يستغله مجرم؛ لينتحل شخصيته، ثم يرميه بجرائمه، يعيش باستمرار صراعا بين حب الإسهام في بناء المجتمع، وسخرية الناس منه، وإبعاده عن كل موطن للرجولة والشهانة، مع أنه يحملها في نفسه، حتى انتهى المسلسل بنجاحه في استخراج الماء من البئر الذي عجز عنه جميع رجالات القرية، ولكنه غرق فيها، قبل أن يرى مشهد الفرح مرتسما على وجوه أهل القرية، أو قل قبل أن يعزز وجوده في مجتمع لا يقيم له وزنا.

الفكرة جديدة، وتلمس شخصية أهملت اليوم في مجتمع سيطرت عليه المظهرية، وكأنها ترفع أصابع الاعتراف بعدد كبير من الشخوص التي تقدم كثيرا لمجتمعها، بينما هي لا تزال منزوية عن الأضواء، ولا يكاد يفتح لها باب.

وفي الجانب الفني كثير من التألق، والمحاولات الناجحة، وكثير جدا من الملاحظات الفنية، التي تشير إلى قلة الخبرة الفنية لدى معظم الممثلين، ما عدا اثنين فقط؛ هما من قام بدور شيخ القرية، ومحمد (البطل)، ونقص في الخبرة الإخراجية، تمططت فيه الفكرة في عشرين حلقة، وكان يمكن وضعها في فلم سينمائي لا يتعدى ساعتين، وسيكون ـ في نظري ـ أفضل بكثير.

هذا التمدد الزمني هو الذي جعل مقاطع كثيرة مجرد استعراض للأدوات القديمة، ومظاهر الحياة الاجتماعية في القصيم والجزيرة العربية بشكل أعم قبل نحو ستة عقود، كما أن برود ردات الفعل في عدد من مشاهد المسلسل في اللحظة التي كان المشاهد ينتظرها بلهفة، أورثت خيبات أمل متكررة، وطالت السكتات كثيرا في المسلسل دون مبرر، حتى أورثت مللا في بعض الأحيان.

إن صناعة الدراما تحتاج إلى أدوات فنية عالية، واستقدام لخبرات عالمية، واحتكاك بالناجحين في هذا المضمار، ولذا فإني أود أن يدخل الممثلون والمخرجون ذوو النظرة الإسلامية المتزنة في برامج تدريبية عالية، يحاضر فيها ويدرب ذوو الاختصاص المتميز، ممن أخرجوا أفلاما ومسلسلات ناجحة فنيا، وإن كانت لا تتسق مع إطارهم الشرعي، فالهدف هنا هو وراثة الخبرة، بدلا من خوض تجارب كثيرة ومكلفة ربما تكون أقل نجاحا مما توقعنا.

ولا أظن أن المجاملة مطلوبة في البدايات، بل التشجيع والصدق في النقد هو الذي يجعلنا أكثر نجاحا في المستقبل بإذن الله تعالى.



اترك تعليقاً