والاستشارة فرصة

كلنا قد نحتاج إلى فتوى أو استشارة أو حتى تأويل لرؤيا نراها، وقد نتحول ـ في أية لحظة ـ إلى مفتين بما نتيقن علمه، أو مستشارين لما نتقن المشورة فيه، وقد يكون من بيننا من علمه الله تأويل الأحلام والرؤى، ومن يتقدم إلينا بطلب شيء من ذلك شخص يثق بنا، ويسأل عن شيء يهمه ويقلقه الجهل به، ويرى أننا جديرون بثقته، وأنه قد وصل إلى من سيفك إبهامه، ويفرج كربته، أو يجد عند حل معضلته.

تماما كما تقدم السجينان في قصر الملك من يوسف عليه السلام وطلبا منه أن يؤول لهما رؤاهما، وأردفا: {إنا نراك من المحسنين}، فيوسف ليس معينا في القصر أو في السجن مؤولا، ولا مستشارا، ولم يخبرهم ـ فيما يظهر ـ قبل ذلك ـ أنه يجيد التأويل، ولكنهم هم الذين عرفوا ذلك؛ من خلال شخصيته المتزنة، وصواب رأيه، وحرصه على نفع من حوله، وإحسانه إليهم، وربما إحسانه في تأويل رؤى الآخرين في السجن، وصدق وقوع ما أوله لهم، واشتهاره بذلك، وكل ذلك يكسب الثقة في المؤول، ومن (الثقة) تبدأ الفكرة التي طرأت لهذا النبي الملهم، بل الموحى إليه..

إن السجينين أرادا تأويل الرؤى التي شغلت عقليهما، بل أحسا بأنها تمثل مؤشرا للمستقبل المتأرجح بين الموت والحياة، ويوسف يعرف ذلك جيدا، ويعلم تشوفهما لمعرفة التأويل الذي لن يخطئ الواقع بإذن الله تعالى؛ لأنه نبي يوحى إليه.

ولكنه لم يبادر بما يتطلعان إليه، بل مشى خطوات واثقة للوصول إلى النفس، ومحاولة تغيير واقعها، بدلا من الإجهاز على هذه الفرصة بالرد السريع الشافي.

فبدأ ـ أولا ـ بتوثيق قدراته الشخصية لديهم، وطمأنتهم على أنه يستحق ثقتهم؛ {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا}.

ثم ثنَّى بإعادة الفضل لصاحبه، {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}. وتلك قوة روحية عظيمة يبثها في جسد تفسيره، حين يتوكل على من لا أقوى منه على الإطلاق؛ الذي يعلم السر وأخفى، يستمد منه قوته وعلمه وتوفيقه، وحين يبرأ المرء من حوله وقوته، ويخلص توكله على الله تعالى فإن الله تعالى لا يخذله أبدا.

ومثل ذلك موقف المستشار، أو المرشد، أو المفتي، هنا يلتقط أنفاسه، وينظر إلى الفتوى أو الاستشارة بأنها فرصة لإحداث تغيير نحو الأفضل في حياة المستفتي أو المسترشد أنى كانت طلبته.

لقد علم حاله من خلال بثه وشكواه، وربما كانت همته كلها مصروفة إلى ما لا قيمة له ولا طائل تحته، ويظن أن حياته مرهونة به، فيأتي المرشد ليقول له: إن هناك ما هو أهم بكثير، وهو صلاح حالك، وهو ما فعله يوسف، حين عرض التوحيد؛ دينه ودين آبائه وأجداده عليهم قبل أن يبدأ في التأويل؛ لأنه بمجرد أن يفصح عن حقيقة الرؤى فلن تبقى أُذُن، ولن يبقى لُبٌّ، بل سينصرفان مباشرة عنه إلى التفكير في مصيرهما الذي انكشف تماما لهما بعد التأويل الواثق.

وقد سلك يوسف صلى الله عليه وسلم مسلكا رائعا جدا حين استخدم إمكانات اللغة المختلفة؛ ليجعل من الحديث حوارا داخليا مفعما بالحياة والتساؤلات، دون أن ينتظر جوابا ولا إقرارا بالحقائق الكبرى التي طرحها، لقد حشد أساليب النفي والنهي، والقصر والتأكيد، والنداء الحميمي والاستفهام، والتخيير الحر والتفنيد القوي، حتى يصل إلى الهدف الأكبر وهو دعوة السجينين للحياة الباقية، وإن كان أحدهما سيخسر الحياة العاجلة، إنها فرصة ضعف وانكسار وحاجة، وظفها النبي الداعية ليصل إلى قلبين في لحظة حضور قوي؛ ليسكب فيهما النور الرباني.

ثم فاجأهما بالتأويل، وختمه بقوة؛ {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ = 41 }.



اترك تعليقاً