في ملتقى التطوع الأول؛ الذي أقيم في غرفة الشرقية في الأسبوع المنصرم، كانت ورقتي حول الاستيعاب في حياة المتطوع، ولم تفسح لي الدقائق العشرون أن أقول أهم ما لدي، بينما كان السؤال الذي يلاحق المتطوع (شخصيا) هو كيف يستطيع أن يستوعب كل هذه الآفاق في حياته، التي تزيد عن غير المتطوع؟! أليس في كثرة أعماله جور على واحد منها على الأقل، ربما يكون أفراد أسرته أو عمله الرسمي أو حتى علاقته بربه؟!
إن القدرة على الاستيعاب تعتبر المؤهل الأول والأهم في شخصية المتطوع، وبدونها قد يخسر المتطوع ما توقع أن يربحه من الأجر أو من النجاح أو من حياته. ولكن الحقيقة أن تفاوت القدرة على الاستيعاب في الناس كتفاوت استيعاب الآنية؛ فهناك إناء واحد يمكن أن يستوعب آلاف الآنية الأخرى، كما أن هنالك متطوعا يمكن أن يستوعب ما لا يستطيع استيعابه مئات العاملين في حقول التطوع المختلفة، مع تحقيق النجاح في كل مناحي حياته.
وهنا ليس لأحد أن يسأل السؤال الأول على سبيل اللوم، وإنما على سبيل الاستفسار؛ لأنه ليس من حق أحد إسقاط حق الآخر في تقرير ما إذا كان قادرا على الاستيعاب الأكثر أو الأمثل لكل ما في حقيبته النفسية من أعباء؛ فهناك فروق فردية واستعداد فطري متباين، وتدرب دائم على الاستيعاب الأكثر، ومن يحاسب المتطوع كما يحاسب غيره يكون قد ظلمه.
ولعل مما يكشف حقيقة الأمر نكتة؛ أقترض آخر جملة فيها، تقول النكتة: إن أحد المربين كان يقرأ حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي منه قوله: … “فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِه”، فأكل المربي يوما ما بينهم فأكثر، فذكَّرُوه بالحديث؛ فقال: “كلٌ أدرى بثُلُثِه!!”.
نعم كلُّ متطوِّع أدرى بالثلث الذي يخصصه للعمل التطوعي، بحيث لا يؤثر على ثلث العمل الرسمي، وثلث الأسرة.
على أن الثلثين الأخيرين، يمكن أن يتنازلا عن جزء من كل منهما بين الفينة والفينة لمشاركة المتطوع في الخير الذي يزرعه في المجتمع، دون أن يخل بهما إخلالا دائما أو بارزا، والعكس صحيح.
كم نظلم المتطوع حين نحاسبه كما نحاسب غيره حين نطلب المساحات الوقتية في الثلثين الأخيرين، وهو خال من أي عمل تطوعي.. لا يستويان!!
ذلك لأني أكاد أجزم بأن (معظم) المتطوعين الناجحين في (الاستيعاب) قادرون على منح المساحة الوقتية الأقل في العمل والأسرة طاقة تعوض النقص في الزمن بالزيادة في الإنتاجية، والجودة في المنتج، وهو ما نراه ماثلا في نماذج مضيئة في مجتمعنا من هؤلاء.
فالأمر ليس وقتا يُمضى، وإنما هو في مَاذا يُمضى؟! وما النتائج؟
إن الفاعلية والإيجابية سمتان للمتطوع، تجعلان منه عاشقا للزمن، غيورا عليه، بحيث لا يمكن أن يفرط في لحظة من لحظاته، ولا يبعثر ذرة من أمواج رماله الذهبية، المسكونة بمكنونات النجاح الذي يصنعه في كل أرض يطؤها.
إن اليوم أربع وعشرون ساعة، أي أنه فسيح حقا، والمشكلة لدى المذهولين من قدرة الاستيعاب لدى المتطوع الناجح هي أنهم يجهلون عددا من الخصائص لديه:
أولها: البركة التي يضعها الله في حياة من شاء من عباده؛ {وجعلني مباركا أينما كنت}، وهي مما لا يمكن أن يقاس بحال من الأحوال؛ لأنها ربانية سماوية؛ وقد يكون السبب هو إخلاصه لله تعالى فكافأه المولى تعالى بها.
ثانيها: إيمانه القوي بفكرته التي يتطوع في رحابها؛ حين سئل الإمام أحمد رحمه الله هل تعلَّمت هذا العلم لله؟ قال: “أما لله فعزيز، ولكنه شئ حبب إلي ففعلته”، فلا يستطيع أحد أن يجزم بالإخلاص، ولكن يعنيني هنا حبه للعمل الذي تطوع له مدى حياته، حين قال: “من المحبرة إلى المقبرة”.
ثالثها: حسن إدارته لوقته؛ وتوزيعه لثوانيه، واستفادته من قُرَاظَات الزمان؛ أي من بينيات الأوقات، التي تُهْدَر في حياة كثير من الناس، بين عمل مهم وآخر، في الطريق والانتظار و…
رابعها: خصائص شخصية، استطاع المتطوع أن ينميها في ذاته؛ زادت من قدرته على استقطاب الطاقات على اختلاف التخصصات والأمزجة والأطياف لاستيعاب طاقاتهم في أعمال راقية، تتناسب مع مهاراتهم، بل جعلته قادرا ـ إلى جوار ذلك ـ على استيعاب قدر من الأعمال التطوعية يوازي طاقته الذاتية، دون أن يخل بواجباته الحياتية الأخرى.
فلنستكشف السر.. قبل أن نبادر باللوم!!
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.