التأهيل الوظيفي والإنتاج

كل شيء يبقى على هيئته يأسن، وينبو، إني وجدت وقوف الماء يفسده، إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب، والأسد لولا فراق الأرض ماافترست، والسهم لولا فراق القوس لم يصب .. كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله.

في عدد من دوائرنا ومؤسساتنا العامة والخاصة حركة دؤوب للأوامر والنواهي والتنفيذ الأجرد، وحركة كسيحة للتحطيط والتفكير والإعداد المسبق، والنظرة المستقبلية، وكثيرا ما تولد الفكرة، وفي الوقت نفسه نصدر الأوامر بتنفيذها، وأسوأ من ذلك أن ترد في وجه مبدعها، أو أن تبيت حتى تموت.

ويعود هذا إلى أكثر من سبب، من بينها: عدم وجود خطة مسبقة كافية لاستيعاب عمل المؤسسة، وتحقيق أهدافها. وربما عدم وجود رغبة في تطوير الأداء، وربما عدم القدرة على التفعيل الأقصى للطاقات التي تحتضنهم المؤسسة، وربما لكون المؤسسة ذات صبغة خدمية، يرتادها الجمهور بشكل كثيف؛ مما يجعلها تندفع في تيارهم الجارف؛ دون أن تتوقف هنيهة؛ لتشحذ المنشار..!!

إن المؤسسة التي تولد الأفكار باستمرار وتدرسها ـ ولو بقدر غير مستوف تماما ولكنه كاف ـ ثم تنفذها مباشرة، تعطي انطباعا لدى موظفيها بأنها مؤسسة فاعلة، ترجب بالرؤى الجديدة، وتخصبها، وتنطلق بها من عالم الأحلام إلى عالم الواقع، وبهذا تحافظ على طاقاتها المبدعة، بل وتصقلها، وتساعد على تألقها وتجددها، لأن بقاء الفكرة في ذهن صاحبها يسد ينابيع تدفق الأفكار، ولو خرجت ثم اصطدمت بالواقع البارد، الفج، الذي لا يرحب إلا برأي واحد، فقد يصاب مبدعها بالتراجع والقهقرى، وربما بالإحباط.

ولذلك فإن المؤسسة المتعجلة ـ إلى حد مقبول ـ في تنفيذ الأفكار، خير من المؤسسة التي لا تنفذ إلا قليلا من الأفكار وبعد طول وقت يصل إلى حد الإملال، مما يتيح الفرصة لفيروسات الوهن أن تقتل أفكارا كثيرة جدا كان يمكن أن تجد لها فرصا أكبر للظهور.

علما بأن الفكرة إذا توالدت فإن أحفادها خير من أولادها، أي أننا كلما فكرنا أكثر، كلما استطعنا الوصول إلى فكرة أجود… وإذا نفذنا بعض أفكارنا، كان ذلك أدعى أن نراها، فنقيمها، بعد أن كانت مجرد طيف يسري في عقولنا.

ولكن الإنسان/الموظف، المرهق بعمله اليومي، الذي حولته الرتابة (الروتين) إلى مجرد آلة تقوم بعمل مكرر، سوف يفقد حاسة التفكير شيئا فشيئا، وهو ما تجده لدى الأطفال في المحاضن القاسية القامعة، وما تجده في بعض البيئات العملية ذات السلطة المبنية على الأوامر والنواهي، فيما لا تتيح فرصة للاستماع إلى منسوبيها.

إن الموظف إنسان ذو طاقات هائلة، أكثرها كامن، ولم يخرج منها سوى قليل جدا من كثير جدا، وكلما أتحنا له الفرصة أن يتحدث أكثر، وأن يفكر أكثر، كلما حظينا بمزيد من العطاء.

والموظف الذي يمارس عمله في بيئة عمل ذات صبغة ابتكارية، وإدارة تستهدف تنمية الإبداع القيادي لدى أفرادها، سوف ينمو بشكل طبيعي، بل أسرع من الوضع الطبيعي، وسوف يمنح المؤسسة مزيدا من القدرة على البقاء والتطور والنجاح؛ لأنها مهما فقدت من قياداتها بسبب نقلهم، أو ترفيعهم، أو استقالتهم، أو تقاعدهم، فإن الصف الثاني والثالث وربما الرابع جاهز لأخذ الأدوار القيادية.

وإذا كانت المؤسسة تنفق الملايين على الموظفين تمثل رواتبهم الشهرية؛ ليقوموا بأعمالهم، فإن التوقف قليلا لدفع الموظفين مجموعات متتابعة للانخراط في برامج تدريبية ترفع من مستوى أدائهم، مهما كلفت من ثمن، هو في الواقع تقليل من مصروفات المؤسسة؛ لأن الموظف حين يرتفع مستوى قدراته، سيقل الوقت الذي يستهلكه في أداء أية مهمة، وهنا سينجز مزيدا منها.

ومثل ذلك حين توفر المؤسسة كل وسائل التقنية المعاصرة، بل وتجدد حتى بناء مقرها ليكون ملائما للحجم الجديد لعملها الذي تقوم به، فإنها ستقفز بالأداء جودة وحجما واستمرارية بإذن الله تعالى.

والموظف إنسان، له أسرة، فإذا عنينا بأسرته؛ تعليما، وتدريبا، بل إذا عنينا بأسلوبه في التعامل مع زوجه وأولاده عن طريق البرامج التدريبية الخاصة بذلك، فإن استقراره النفسي في أسرته، وشعوره بالارتياح معها؛ سوف يجعل منه إنسانا منتجا أكثر، سعيدا في حياتيه العملية والأسرية بإذن الله تعالى.



اترك تعليقاً