التربية يا أهل القرآن

منذ أمد بعيد ، وأنا أتحدث مع عدد من المسؤولين والقائمين على الحلق القرآنية حول إعادة النظر في مخرجات الحلق من الناحية التربوية؛ لكوني لا أرى اهتمامًا كافيًا من هذه الناحية يوازي الاهتمام بالتحفيظ للنص القرآني الكريم.

وبمراجعة منهج الصحابة الكرام في هذا الشأن نجد أنه يقوم على مزج التربية بتعليم القرآن مزجًا كاملا، حتى قال أبو عبد الرحمن السلمي: ((كان الذين يقرئوننا القرآن من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وأبي بن كعب وغيرهم ممن كانوا يقرئون التابعين يقولون: ” كنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز العشر آيات حتى نعرف ما فيها من القرآن والعلم والعمل فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً.

ولعل حديث عائشة رضي الله عنها : ((كان خلقه القرآن أما تقرأ القرآن قول الله عز وجل )وإنك لعلي خلق عظيم())؛ واه أحمد. ذو دلالة ظاهرة على أن القرآن منهج تربوي أخلاقي عظيم ، ينبغي على آخذه أن يتحلى بما فيه.

وإذا كان ذلك مما يرجى من المتعلم فإنه مرجو من معلمه أكثر وأكمل ، كي يكون القدوة الحية والأنموذج الرفيع لما يلقنه لطلابه من القيم والمبادئ ومكارم الأخلاق؛ حتى لا يقع الطالب في تناقضات خطيرة، فيختلط عليه الأمر وتلتبس عليه الحقائق والمفاهيم فلا يستطيع التمييز بين الزائف والصحيح ، والحق والباطل ، وربما وقع في براثن النفاق الاجتماعي دون أن يشعر.

قال عُتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده عبد الصمد : (( ليكن أول ما تبدأ به من إصلاحك بني إصلاحُك نفسَك؛ فإن أعينهم معقودةٌ بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيحُ عندهم ما استقبحت، علِّمهم كتاب الله ، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه ، ثم روهم من الشعر أعفه ، ومن الحديث أشرفه …))[البيان والتبيين]، إلى آخر هذه الوصية الرائدة تربويا.

إن جمعيات تحفيظ القرآن الكريم تنفق سنويًا ملايين الريالات على تحفيظ الطلاب، وتأهيل المعلمين علميًا ، بينما لا تزال عمليات تأهيل المعلمين تربويًا متأخرة جدًا ، ولا تنال النصيب الأوفر ، ولذلك فإن المخرجات تتسم في كثير من مناطق المملكة بكثرة الطلاب ، وقلة الحفاظ إلا من خلال الدورات المكثفة التي تحتاج إلى دراسة جدوى أيضًا، ثم إن شخصية طالب التحفيظ تحتاج إلى صقل خاص ؛ لأنه حين يتخرج ويحفظ كتاب الله ، دون أن يعتني بسلوكه ، أو يتربى في محضن يتسم معلمه بالقسوة والشدة ، فإنه ربما ورث هذه القسوة، وورَّثها غيره.

وحين نعود إلى النهج النبوي الكريم في التعامل مع الأطفال والولدان والفتيان فإننا نجده يتسم بالحكمة والصبر ، والإعذار ، وغرس الثقة في المربى ، وتقديره ، واحترامه ، وتشجيعه ، والكف عن سبه وضربه وإهانته ولومه. وما أناشد الجمعيات القرآنية اليوم للقيام به إنما هو شيء واحد ، هو العودة إلى أسلوب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في تعلم القرآن وتعليمه.

وقد دلت الدراسات الحديثة على أن الطريقة الخاطئة في تأديب الطفل قد تعوق نموه العقلي بنسبة 40% على الأقل ، وبهذا يقل ذكاؤه وقدراته وقد يفشل في المستقبل.

كما دلت الدراسات النفسية والتربوية على : أن هناك علاقة موجبة بين المعاملة التي يتلقاها الولد والتي تتسم بالتسامح ومنح الولد الاستقلالية في التفكير والقرار وبين التفوق العقلي والابتكارية والتجديد، وأن التربية بالتقبل والحب ، تجعل الولد أكثر توافقا اجتماعيا مع من حوله، وأسرع نموا عقليا وعاطفيا، وأكثر دافعية للإنجاز والطموح، وأن من يتلقى هذه التربية والرعاية يتمتع بتقدير كبير لذاته، ويحس بالأمن الداخلي، ويكون أقل توترا وقلقا، وأكثر ثقة بنفسه، وتكون شخصيته أكثر انبساطية ؛ تميل إلى الحب والتقبل ، بينما يشعر غيره بالنبذ والانسحاب والانطوائية، ويدرك حب الوالدين أو المعلمين له.

ونتيجة طبيعية لكل ذلك فإن الطالب الذي يحصل على تربية مثل هذه في البيت والمدرسة والحلقة فإنه سيعيش متكامل التربية ، مستقر النفسية ، محبا لدينه وربه ولكتابه، ولنبيه صلى الله عليه وسلم ولأسرته ومجتمعه ووطنه وأمته ، متعاونا مع غيره ، مبدعا   في فنه ، قادرا على التفكير السوي، مبتعدا عن كل تطرف أو تميع أو انحلال.

بينما نجد أن هناك من الطلاب والطالبات من يفقدون هذه الرعاية التربوية الخاصة، فيمرون بعملية الاحتراق ، التي جعلتنا نرى عددا ليس قليلا ممن ينضوون في حلقات تحفيظ القرآن الكريم صغارا ، يتركونها فتيانا ، ولاسيما في المرحلة المتوسطة بالذات ؛ حيث يدخل الولد مرحلة المراهقة ، فيحتاج إلى معاملة خاصة ، فلا يجدها ، فيهرب ربما إلى ما لا تحمد عقباه. وأعرف من هؤلاء شابا حفظ كتاب الله كاملا ، كم كان في حاجة إلى معلم مبدع ليكون مبدعا ، لا إلى معلم ملقن، لا يزيد إنتاجه عن طبع نسخ بشرية باهتة من المصحف لا تعيش معانيه ، منطفئة الروح والتفكير.

بالطبع لست أعمم هذه الصورة على جميع مخرجات حلق القرآن الكريم في بلادنا التي أدت خدمة لكتاب الله ولفتياننا وفتياتنا، ولوطننا الحبيب الذي فرح بهم حفاظا وأئمة وشبابا مستقيمين، ومبدعين في كل الميادين، ولكني أزعم بأن ما ذكرته يمثل ظاهرة ليست محصورة، وأنها تحتاج إلى مزيد دراسة ونظر .. وقرارات تزيد من فرصة الجانب التأهيلي التربوي للمعلم والمتعلم في ظلال كتاب الله وبين أروقة بيوته الطاهرة.



اترك تعليقاً