الطالب أديبا .. تقويم الغصون

قد ينفع الأدب الأحداث في مهل.. وليس ينفع في ذي الشيبة الأدب.. إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت.. ولا يلين إذا قومته الخشب.. هكذا قال الحكيم، مما يجعل الالتفات إلى ناشئة الأدب واجبا أمام جناب العربية العظيم، يقضي حقه العلماء والأدباء، وقد مر بنا في مقالات أربعة مسارات عديدة في هذه الرحلة الطويلة للوصول إلى أديب المستقبل، المؤمل أن يكون أكثر إبداعا ومشاركة في بناء الحياة من أديب اليوم، وفي هذه الحلقة الأخيرة أصل إلى مرحلة عرض المنتج وتقويمه.

لا بد لطالب الأدب من أن يتقن ما يعرضه على الناس، فإنما الإنسان يعرض عقله وقدراته، من خلال حروفه وكلماته، حتى قال الجاحظ: وإنما يجترئ على الخطبة الغمر الجاهل الماضي الذي لا يثنيه شيء، أو المطبوع الحاذق الواثق بغزارته واقتداره؛ فالثقة تنفي عن قلبه كل خاطر يورث اللجلجة والنحنحة والانقطاع والبهر والعرق” [البيان والتبيين].

ولا شك بأن الثقة وليدة الجودة، فكلما أجاد في الإبداع، وثق في نفسه أكثر، وكلما ازداد حجم الثقة ازدادت القدرة على تقديم المنتج بقلب قوي، ولسان فتي، لا يتردد، ولا يتأتئ، ولا تملأ الآآت واليعنيات مفاصل حديثه.

ولكنها ثقة ذكية، لا ترمي صاحبها فوق حطب الغرور على جانب واحد؛ فتحرقه قبل أن ينضج، ولذلك يعود إمام الأدب في عصره عمرو بن بحر الجاحظ فيقول للطالب: “فان أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتُنْسَبَ إلى هذا الأدب، فقرضتَ قصيدة، أو حبرت خطبة، أو ألفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك، ويدعوك عجبك بثمرة عقلك، إلى أن تنتحله وتدعيه، ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل أو أشعار أو خطب، فإن رأيت الأسماع تصغي له، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه، فانتحله، فإن كان ذلك في ابتداء أمرك، وفي أول تكلفك، فلم تر له طالبا ولا مستحسنا، فلعله أن يكون – ما دام ريضا قضيبا ـ أن يحل عندهم محل المتروك، فان عاودت أمثال ذلك مرارا فوجدت الأسماع عنه منصرفة، والقلوب لاهية، فخد في غير هذه الصناعة، واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه، أو زهدهم فيه”.

ومما وجدته من أحوال الطلبة المتأدبين، أنهم يغترون بما يكتبون أول الأمر، فإذا عرضوا ما كتبوه على ناصح حدب على قرائحهم، ووجهها نحو ما تراءت له وجهتها، فإنهم ربما ترددوا في قبول رأيه، أو ربما تجاوزوا ذلك إلى اتهامه بأنه يريد طي صحيفتهم، وتثبيط هممهم، وكسر جناحي الإبداع في انطلاقتهم!!

ونسوا أن “كل مجر في الخلاء مسر”، وهذا صاحب البيان يعود ناهيا طلائع الأدب بكل قوة: “فلا تثق في كلامك برأي نفسك؛ فإني ربما رأيت الرجل متماسكا وفوق المتماسك، حتى إذا صار إلى رأيه في شعره وفي كلامه، وفي ابنه، رأيتَهُ متهافتا وفوق المتهافت”.

والأدب يحتاج إلى ترويض النفس على الصبر على الإبداع، وعدم التعجل على النشر، وهو من آفات شداة الأدب، الذين يستعجلون اجتلاب الأضواء إلى ورقاتهم البضة، وهم لا يعلمون بأنهم ينتحرون أدبيا بهذه العملية غير المسؤولة.

لقد كان عبيد الشعر كما يسمون زهير بن أبي سلمى وهو أحد كبار شعراء العربية على مر العصور، يسمي كبار قصائده (الحوليات)، والحطيئة الشاعر المبهر يقول: “خير الشعر الحولي المنقح”، وهذا البعيث الشاعر ـ وكان أخطب الناس ـ يقول: إني والله ما أرسل الكلام قضيبا خشبيا، وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكك”.

وقد يقرض الشعرَ البكيُّ لسانه.. وتعيي القوافي المرء وهو خطيب

ويمكن أن يستمر الناشئ في المراحل الثلاث مدى طويلا؛ الاطلاع، والكتابة، والعرض؛ ليراقب المؤدب ترقيه في سلم الإبداع.

إن استهداف استكشاف الميول والطباع، والتعرف على المواهب والقدرات، يحتاج إلى مشاريع عملاقة، تعطي كل لون من ألوان الفنون حقها من الرعاية والاهتمام، ومن ذلك الأدب بكل فنونه، وكان لا بد أن تنهض المؤسسات التعليمية بهذا الواجب الحضاري في بلادنا، لتنقل التعامل مع الطالب من كونه ماعونا يعرض فيه العلم، كما يحلو لبعض أجدادنا أن يقول، إلى أن يكون مطبخا يحول ما في القدر من مواد خام، إلى لون جديد، لا عهد للعيون الإنسانية به من قبل.



اترك تعليقاً