الكلبة

أحب ـ كثيرا ـ أن أقتنص الحكم العالمية، وأشعر فيها بنبضات الإنسان المفكر الواعي المجرب، الذي يقدم لي ما يجدد خلايا التفكير في الركود العقلي الذي يجتره أحدنا حين يخمد بين معلومات مكررة، أو نصوص واستشهادات بشرية ذبلت ورودها، وصدئت معادنها، وخلقت بكثرة الإيراد أثوابها. وكان مما أعجبني من الحكم العالمية: الشهرة كالكلبة .. إذا لحقتها هربت منك، وإذا هربت منها لحقت بك.

أومأت هذه الحكمة الرائعة إلى فئتين متضادتين؛ الأولى: تلك التي سال لعابها بكل قذارة إلى أقدام الشهرة المتلطخة بدماء الفضيلة، والأخرى: تلك التي ركلتها بأطراف أناملها الطاهرة، ولكن المجد والذكر الحسن لحقا بها فكان لها عاجل بشرى المؤمن.

لو كانت الشهرة أمرا محمودا محضا لاختص به ألو الفضل، ولكني رأيت من أشهر خلق الله إبليسا، وقد ينال أهل الشر والفساد من الشهرة ما لا يناله الذين قدموا حياتهم كلها من أجل أمن البشرية وتقدمها وتحضرها. ولو كانت الشهرة من الفضائل الخالصة لوجدت النصوص الشرعية تتدفق بالحث عليها والسعي نحوها. ولكن عكس ذلك كله هو الذي فاضت به كتب الحق والحكمة في كل الأمم.

لقد دفع هذا المطلب صرعاه إلى ما لا تحمد عقباه لهم في الدنيا ولا في الآخرة، فهم مرة يكذبون .. والمؤمن لا يكذب، ومرة يحقدون .. والكبير لا يحقد، ومرة يكيدون .. والنبيل لا يكيد، ومرات يحترقون .. والسعيد لا يحترق.

مثل هؤلاء يعيشون نفاقا اجتماعيا غبيا .. فالناس كلهم يرون من خلف الجدار الكرستالي الذي صنعوه حول شخصياتهم كل عمليات التفكير الساخنة التي يجرونها بحماقة، والتي تتجه بالكلية إلى إجابة سؤال واحد : كيف أصل؟

إن طلب الشهرة يجعل صاحبه يغير مبدءا نافح عنه، بل أصبح بطله؛ لأنه لم يعد قادرا على تحقيق مآربه به، فليذهب المبدأ للجحيم ما دام قد انهدمت عتبته التي ترقى به لينظر الناس رأسه.

ومن تسيره الأطماح جامحة     فإنما قبره بين الطموحات

والعاقل لا يطلب الشهرة، حتى لا تكون همه؛ فتهلكه، وتذهب بأعماله أدراج رياح الرياء وحب السمعة، وحتى لا يكون لها عبدا تأمره فيأتمر، وتنهاه فينتهي.

لقد فر منها الإمام المبجل أحمد بن حنبل، وكان يتعوذ بالله منها، فأصبح اسمه نارا على علم.

لا أزال أتذكر قولة الأستاذ الشاعر الراحل أحمد الراشد المبارك حين قال لي في مجلسه بالخبر: لقد عشت زمنا من أراد أن يشتهر فليلحد .. ! وهو يشير إلى فترة مر عليها أكثر من ثلثي قرن من الزمان.

لقد اشتهر من المسلمين من كتب ضد دينه ونبيه صلى الله عليه وسلم وكتاب ربه جل وعلا، أو واجه مسلَّمة من مسلمات الشرع، أو طعن في أصل من أصوله، حتى كُرِّم في الشرق والغرب، ووجد من يدافع عنه ومن يحتفي به؛ ولكن يا لها من خسارة في الدنيا والآخرة .. ذلك هو الخسران المبين.

شهوة الشهرة تستجر شهوة الترفع وحب الظهور، والتطلع إلى مجرد سماع الاسم أو ظهور صورته في أي مكان .. ! إنها مصيبة اتخاذ العلم أو الأدب أو حتى عمل المعروف والصدقة وربما حتى الزكاة المفروضة وسيلة “لنيل غرض من أغراض الدنيا؛ لبناء الأمجاد الشخصية، والعلو على الناس، والاستعظام عليهم، واحتقار الآخرين وازدرائهم، وعيبهم والتشنيع عليهم”.

شهوة عشق الشهرة تنشئ في النفس حب التصدر حتى في غير المكان المناسب للشخص المريض فيُحْتَقَر من الآخرين، تزرع فيه الرغبة الجامحة لينشغل الناس به، وينقادوا إليه، ثم تكون النتيجة: “الكبر والغرور والعجب والأنانية، وحب الذات، وعبادة النفس، والانتصار لها، والغضب لها، وعبادة الهوى؛ فلا تقوم للقلب قائمة. 

ثلاث مذهبات :

“بعت الشهرة واشتريت رضا الله” الفنان الشعبي التونسي فوزي بن قمرة.

“من ترك طلب الشهرة وحب الظهور رفع الله ذكره، ونشر فضله، وأتته الشهرة تُجَرّر أذيالها” كاتب لا يحب الشهرة.

“أخشى عليك أن تقص (تحاضر) فترتفع عليهم في نفسك، ثم تقص فترتفع، حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا فيضعك الله عز وجل تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك. عمر بن الخطاب رضي الله عنه.



اترك تعليقاً