المقاطعة .. وأسئلة من التاريخ

لم أكن أتوقع ـ مع حسن ظني في حاضر أمتي ومستقبلها ـ كل هذا التضامن الرائع، بل والتوحد الشعوري الذي زلزل مسلمات الاتحاد الأوربي في تصوراته تجاه أمة الإسلام.

الأمة كلها بكل طوائفها وأطيافها، في البلاد المسلمة وغير المسلمة نطقت بعبارة واحدة : ( إلا رسول الله ) .

هل هذه بداية اليقظة الجديدة ؟

هل يمكن أن نعد هذا نجاحا مبدئيا في اختبار مبدئي حاول أن يلامس الجرح القديم في الجسد المخدر .. وإن كان حيا ؟

نعم .. كان الكي ساطيا، ولذلك تحركت أعصاب الجسد رويدا رويدا، بعد أن احتاج الألم أن يسري في الجسد الواهن ثلاثة أشهر أو أكثر لينتشر في بقية الأعضاء؛ فتنتفض.

هل سيستمر هذا الشعور ؟

هل سيستثمر هذا العنفوان المحمدي الفوار ؟

إذا بقي اتجاه المشاعر مجرد غضب وتنفيس عاطفي معتاد، فسوف ينطفيء فور مرور الوقت وإن طال قليلا، أو باسترضاءات متتابعة بدأت منذ الوهلة الأولى ولا تزال مستمرة من الصحيفة المجرمة، ومن الحكومة الدانماركية، وقد تنتهي بما يريده الغاضبون من أجل نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم. ولكننا سوف نخسر كثيرا إذا مرت المأساة دون وعي أو تغيير.

من حقيبة التاريخ قطفت ورقة صفراء تحكي موقفا حفظه الرشيد في سجلاته الذهنية ورواه لأهل دهره ، يقول الخبر :

طلب عبد الملك بن مروان بأن يترجم له ما نقش على النقود التي يتعامل بها المسلمون في مصر من عبارات غير عربية فوجدها : ((أبا وابنا وروحا قديسا)) أي الثلاثية النصرانية الشركية، فأنكره وقال: ما أغلظ هذا في الدين والإسلام، أن يكون طراز القراطيس بمصر وهي تُحمل في الأواني والثياب، فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت بشرك مثبت عليها، فأمر بالكتابة إلى عبد العزيز بن مروان وكان عامله بمصر بإبطال ذلك الطراز ، وأن يأمر صنّاع القراطيس بأن يطرزوها بسورة التوحيد و(شهد الله أنه لا إله إلا هو)، وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل، فلما أثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحملت إلى الروم، انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم، فترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه واستشاط غضباً فكتب إلى عبد الملك، (( إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فإن كان من تقدمَك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق، حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية، وكانت عظيمة القدر، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول، وأعلمه أن لا جواب له ، ولم يقبل الهدية، فأضعف له الهدايا مرتين، ولكن الخليفة المسلم رفض، فغضب الرومي وكتب له يقول : إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلاّ ما ينقش في بلادي، فينقش عليها من شتم نبيك ما إذا قرأته ارفض جبينك له عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه، وتجعل ذلك هدية بررتني بها وتبقى على الحال بيني وبينك.

فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلظ عليه وضاقت به الأرض وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من شتم هذا الكافر ما يبقى غابراً ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فأشار إليه أحدهم بقوله : لا يعظمن هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما إن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهددك به صاحب الروم في رسول الله صلى الله عليه وآله ، والأخرى وجود الحيلة فيه، قال: وما هي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصنّاع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيه تلك الدراهم والدنانير … ففعل عبد الملك ذلك ، وتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية، ورد رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك، ويقول: إن الله عز وجل مانعك مما قدرت أن تفعله وقد أقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية.

فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم، فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وممتنع من الذي قال. أي أنه قبل بالأمر الواقع ورضخ له، حين استغنى المسلمون عن حاجتهم للكفار في سك نقودهم. 

ترى هل ستدفعنا هذه المقاطعة المباركة للبضائع الدنماركية من أجل رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ لنستقل بأكلنا وشربنا ومصنوعاتنا عما في أيدي الآخرين، أليس في بلاد المسلمين من أقصى شرق آسيا إلى أقصى غرب أفريقيا غنية عن هؤلاء البتة ؟!

لا أظن .. ولذلك لا بد من إعادة البناء والخطط .. لنخلف ما توقعه أحد سفرائهم حين قال : إن المسلمين لا يستطيعون الاستمرار في المقاطعة ؛ لأنهم لا ينتجون .. فمن أين يأكلون ؟



اترك تعليقاً