الملكات المهدرة

منحني التدريب في مجال التطوير الذاتي للطلاب والطالبات فرصة ثمينة للاستماع إلى نبض الشباب الحقيقي، ثم الوصول بدقة إلى درجة الحساسية التي وصل إليها الشاب أو الشابة، وهو يصف وقع الكون والحياة والمجتمع على نفسه المرهفة، فكيف لو كانت شابة في عمر زهرة.

لقد وجدت أن أهم فئة تمثل حاضر الأمة ومستقبلها القريب مهملة إلى حد كبير في أهم ما ينبغي الاعتناء به فيها، وهو تصورها عن نفسها، ورؤيتها لمستقبلها، ورأيها في قسمات الحياة التي تعيشها، وعلاقاتها بمن حولها، ووسائل تطورها الذاتي؛ لتحقق وجودها بالوصول إلى رغباتها المشروعة بقدراتها الذاتية.

إننا مشغولون بإطعامهم .. بإلباسهم .. بتعليمهم التعليم التقليدي الذي هو أثقل على بعضهم من جبل أحد!!

لكن هؤلاء الشباب والشابات مشغولون بشيء آخر .. بعواطفهم .. بطموحاتهم .. بمستقبلهم الذي يكتنفه كثير من الغموض.

الاستماع إلى صوت أحاسيسهم وأصداء الحياة في نفوسهم هو الطريق إلى استقامتهم، وتفوقهم، ونجاحهم في الدنيا والآخرة.

والاستماع الذي ينتظرونه منا ـ نحن الأولياء والمربين ـ هو الاستماع المبنى على منحهم الحرية المطلقة في التعبير عن كل ما يشاؤون، المسيج بأطر الاحترام المتبادل، والتقدير الكبير للمرحلة التي يمرون بها ومتطلباتها النفسية خصوصا، والجسدية ثانيا، والعقلية ثالثا، والتقدير الكبير لآرائهم مهما رأيناها ـ أحيانا ـ ساذجة؛ فهي بالطبع تمثلهم، ونحن لا نريد أن نربيهم على النفاق الاجتماعي، ومخادعة الذات، والالتفات الكبير لرغباتهم والتي قد تمس الدين والخلق؛ كيف نفهمهم كما هم.

إن البعد عن هذه المرحلة يمثل القاعدة المحكمة لنشوء الانحرافات الشرعية والفكرية والخلقية؛ إفراطا أو تفريطا، وكلاهما سيء جدا في الفترات الأولى من التربية خصوصا.

ولذلك فإن كل (محضن تعليمي أو تربوي) يمر به الشاب مطلوب منه أن ينتقل من حال التلقين البدائي، وفرض النظم واللوائح عليه، والقسر على الاختيار في جميع أمور الحياة الخاصة، والتخطيط الإجباري له، واللوم الاعتسافي في التعامل مع أخطائه؛ وهو يعاني من هذه المرحلة الحرجة من عمر الإنسان إلى أسلوب ورش العمل، والاستماع الرائع في أجواء من التقدير الكبير للمبدع والمبدعة الجاثمين في كل شاب وشابة.

إن تدخل المربين والمربيات في الحياة الشخصية لمن يقومون عليهم مهم للغاية، ولكنه تدخل خلاق، وليس مُحبِطا، ولا مكبِّلا.

والفرق بينهما هو الفرق بين الأب الذي يجلس مع أولاده مطلع كل عام دراسي، ويسألهم عن أهدافهم في الحياة ليحددها معهم، ثم يتذاكر معهم الوسائل المعينة على بلوغها بعصف ذهني حر، ليس فيه تبكيت، ولا تشنيع على أي فكرة، ولا قمع باسم منصب الأبوة، وإنما هو تشجيع للصحيح، وتوجيه لغيره.

وبين أب يلتفت إلى أولاده وهو واقف (ليس لديه وقت للجلوس)، فيهدر عليهم بخطبه الرنانة المكررة حتى السآمة، ليحدد (هو) الأهداف، ويسرد (هو) الوسائل، ويطلب منهم الإقرار بها، والتعهد بتنفيذها دون مراجعة ولا تفكير.

وقل مثل ذلك في كل أم أو معلمة تتمتع بجانب كبير من التسلط، فتهدم وهي تظن أنها تبني.

إنني أتمنى أن تعقد حلقات تفكير ونقاش في البيت والمدرسة والجامعة والنادي وفي كل مكان يغشاه الشباب؛ ليطلق له العنان ليقول ما شاء، ونتعرف على مكنونات فكره، وما وراء مشاعره الظاهرة، ونخفف عنه كثيرا من الاحتقانات التي قد تنفجر بطريقة نجهل وقتها ووجهتها. وليس ذلك مرهونا بجلسات محدودة تقوم بها جهة ما كمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، كان من المفروض أن تنشئ بها الرغبة في إيجاد جلسات تفكير وحوار أخرى كثيرة في كل مدينة وقرية وهجرة، لا أن تقف عندها، وهو من أهداف المركز الكبرى.

دعوهم ودعوهن يقولون ويقلن .. حتى تنتهي آخر قطرة من أحاديثهم وأحاديثهن، فنكون قد حققنا أهدافا سامية .. ولكنها لا تمثل سوى مرحلة مهمة .. تحتاج إلى الانطلاق إلى مرحلة أخرى هي تقويم هذه الأفكار، وتوظيفها لصالحهم ولصالحهن.. ليكونوا جميعا في صف واحد مع ولاة أمرهم، ومجتمعهم، ووطنهم، وأمتهم.



اترك تعليقاً