الوجاهة المدكترة

قبل أكثر من أسبوعين أعلنت وزارة التعليم العالي بأنها أوقفت (52) مكتبا ومؤسسة تقدم شهادات وهمية، صادرة من جامعات غير موصى بها من قبل الوزارة، ورغم ضخامة هذا العدد من المكاتب إلا أنها كانت تعمل في بلادنا بطريقة غير نظامية، ولا تملك تراخيص رسمية، مما يجعل كل منتجها من شهادات (الماجستير والدكتوراه) التي تروج لها بالتعاون مع جامعات غير سعودية لا قيمة لها، ولا تعادل، ولا يستفيد منها الحاصل عليها وظيفيا!! ومع ذلك فالطلب عليها كثير!

فاندلعت في ذهني صور كثيرة..!!

فقد سمعت من يتحسر لأنه لا يحمل شهادة الدكتوراه، لا لأنه كان يتمنى أن يحصل على مخزونها العلمي ويتخصص في المجال الذي يشغله، ولكن لمجرد أن تَعْلَق الدال باسمه الكريم، الذي بدأ يتصاعد ظهوره في بعض وسائل الإعلام.

ورأيت من يشقى للحصول على شبح (الدال)، ولو دون أن يكون لها أية حقيقة في بنائه العلمي، لمجرد أن يرفع من مستوى اسمه اجتماعيا.

وأطلعني أحدهم على عرض من مكتب (تسويقي) في المملكة ليمنحه درجة علمية، وكل ما طلبه: شهادات الحضور للبرامج التدريبية التي شارك فيها، ولو كان جالسا فيها يحتسي القهوة، ويتثاءب، لتحتسب له في تقويم الدرجات، وإذا كان عنده دبلوم من ستة أيام، أو نحو ذلك؛ ليسدَّ بها بعض المواد، فلا يبقى له سوى مواد محدودة، يأخذ كتبها فيقرأها في أيام، ثم يؤدي فيها اختبارا باهتا، ليحصل على الماجستير، ويضيفها ـ بشكل عاجل ـ إلى سيرته الذاتية.

وآخر جمع بعض إنتاجه المبعثر من مقالات ومحاضرات بين دفتين، وأرسلها إلى جامعة خارجية وحصل على اللقب؛ ليحمل اسمه الكريم على بنرات الفضائيات والمواقع الشبكية.

ويظل الملف مفتوحا أمام المستقبل الذي لن يستطيع شاهده أن يفرق بين من نال هذه الشهادة بعد أن عصرته جامعته عصرا؛ حتى أخرجت زيته، وخضته خضا؛ حتى أخرجت زبدته، وطوت له بضعة عشر عاما من عمره في زنازين المكتبات المورقة علما وفنا؛ حتى أطلعته عالما في فنه، وغيبته بضعة عشر ربيعا عن متعة الحياة التي يغرف منها أقرانه؛ ليجد متعته في الاكتشاف والإبداع وصناعة الحياة، وشلت استثماراته بضعة عشر سنة؛ ليجد نفسه بعدها من المفاليس، فيما أثرى زملاؤه الذين لم يطأوا ميدانه، لن يفرق بين هذا المجاهد في خندقه، وبين من استيقظ فجأة فقرر أن يتوج اسمه الكريم بهذا اللقب من أقصر الطرق، وبحيث لا يفقد شيئا مما يستثمره، فجمع شتات أوراق قديمة لديه، وحضر بضعة عشر ساعة، ودفع بضعة عشر ألفا، وراسل واجتهد في المراسلات، وما يسمى التعليم عن بعد، ليعلن في الملأ بأنه حصل على الماجستير، ثم على الدكتوراه، دون أن يغبر قدميه، ولا تشيب له شعرة!!

الحصول على الدكتوراه في الجامعات السعودية أو في الجامعات العالمية المعترف بها من وزارة التعليم العالي، ليس طريقا ممهدا بالورود، بل دونه خرط القتاد كما تقول العرب، ولذا هرب هؤلاء إلى هناك!!

وربما يصرخ في وجهي أحدهم كفاك!! أهذا جزاء الطموح؟ هل وجدنا الفرصة مفتوحة لنا في بلادنا وتركناها!! أليس هناك تعقيد في القبول في الجامعات السعودية؟ ألست ترى كيف يهرب عشرات الآلاف سنويا إلى جامعات عربية قريبة جدا؛ كالبحرين والأردن واليمن؛ ليدفعوا عشرات الآلاف، ويسافروا عشرات المرات، ومنهم من تغرب وتعب وعصر كما وصفت، حتى حصل على شهادته بجدارة؟!

عذرا فما كنت أتحدث عن هؤلاء الذين ذكرت شأنهم، بل هؤلاء محل التقدير والاحترام والإجلال، لأنهم اختاروا الجامعات العريقة، التي تقدر العلم قدره، وتعطيه حقه، ولذا نالوا شهاداتهم بعد أن مهروها تعبا وجهدا وتحصيلا، فهنيئا لهم ما أحرزوا من العلم والعمل، وهنيئا لنا وللوطن بهم.

وعدم منحهم الفرص في بلادهم؛ بسبب نقص التقدير عن (جيد جدا)، أو بسبب قلة الوظائف للمعيدين، أو بسبب تقليل عدد المقبولين في الدراسات العليا في جامعاتنا، هو الذي دفع هذه النخبة المتميزة إلى البحث عن فرص أخرى خارج الحدود.



اترك تعليقاً