الوطن حياة

ربما نظن أننا نتعامل مع ذكرياتنا بطريقة تلقائية؛ أي أن المخزون ينتثر أمام مخيلتنا دون انتقاء، ولكن يبدو أن الحقيقة خلاف ذلك، فعقولنا حين تستثار تجاه شخص أو موضوع أو موضع ما فتطلق قطار الذكريات، فإنه لا يمر هكذا بعفوية، وإنما يمر بطريقة انتقائية عجيبة، إننا لا نوجه أنامل الاختيار، ولا نحدد إطاره، ولكنها العاطفة التي نملكها تجاه أي مفردة من مفردات الحياة من حولنا، هي التي تنتقي الصور والأصوات والمواقف التي تمر بمخيلتنا، فنتذكر المحبوبات وننسى المبغوضات مع من نحب ، ويحدث العكس مع من نبغض.

ولذلك فإن حبنا لوطننا الذي عظمه الخالق عز وجل، وفجر فيه منابع دينه الذي ارتضاه للناس، إن هذا الحب كفيل بأن نرتاد ذاكرتنا الوطنية فلا نلتقط إلا الجمال المتنامي على الرمال الذهبية متناسين رمضاءها، والجبال الخضراء متناسين وعورتها، والمياه الزرقاء متناسين خطورتها.

سوف نتذكر ـ نحن المثقفين ـ بأن الوطن أمانة غالية تتوارثها الأجيال، وعلى كل جيل أن يتحمل مسؤوليته الكبرى تجاه نمو الوطن في عصره، وحين تتخاذل العقول المفكرة عن أداء أماناتها، فلن يبقى سوى الأيدي العاملة التي ستكرر المنجزات دون تجديد ولا إضافة ولا إبداع.

حين يسكت المثقف فإنه يكون قد بدأ رحلة الموت وهو على قيد الحياة، وحين يفقد الوطن أنفاس المثقفين فإنه يختنق، ويذبل، ويعيش حياة أشبه ما تكون بالموت.

ولذلك فإن المثقف الصادق يتحمل مسؤولية دعم التقدم في وطنه، وكشف الطريق أمامه، والالتفات إلى مكمن الوجع وتسليط الضوء عليه بدلا من لفت النظر عنه؛ نفاقا أو مجاملة أو خوفا.

إن المحب الحقيقي هو الذي يضحي من أجل معشوقه، ويكون هاجسه ليله ونهاره، ويصبر نفسه على لأوائه، ويتذكر منه أجمل ما فيه، ولكني لست مع المثل القائل: “حبك الشيء يعمي ويصم” على ما فيه من دفن الحقيقة، وتزويرها.

إذا لم ينصح المثقفون لأوطانهم فمن سينصح، إذا أصبح المثقف بوقا لغيره فما قيمته؟ إذا سطح المثقف تفكيره فمن سيرحل إلى الأعماق؟ إذا تحول المثقف إلى مجرد نفق أو جسر تعبر فيه أو عليه عربات الآخرين، فقل لي بربك ماذا يكون هو؟

الوطن للإنسان حياة.

ألا تكفي هذه الكلمات الثلاث أن تستوقف المواطن/المثقف بالذات لينظر من خلالها إلى كل ما يقدم له الوطن فيعترف به ويشكره له؟؟؟

لو لم يقدم الوطن للمثقف سوى الأمن والاستقرار لكفاه!! فكيف وقد قدم مع الأمن كثيرا وكثيرا؟!

ويبقى المنتظر من الوطن كثير وكثير جدا!!

ولكن المنتظر من المثقف أكثر بكثير مما قدمه الوطن له؛ لأن الوطن سيضاعف إنتاجه وبالتالي عطاءه حين يفتح المثقف أمامه أبواب جديدة من النماء والحضارة والتقنية.

المثقف الحق هو الذي يقدر مسؤوليته التاريخية، هو الذي ينتزع من شخصيته (أنا) الهوى الشخصي، فيتجرد من كل مصالحه الشخصية ليكون فردا في (نحن) التي تمثل (أسرة) الوطن الكبير. وهنا يشعر الفرد بأنه أصبح (كلا)، فيغنم الفرد، ويغنم الكل.

وحين يكون الوطن ثريا بتاريخه، غنيا بحاضره، ذا مكانة عالية سامقة بين أقرانه، فإن مسؤولية بقائه قدوة مثلى لا تقع على ساسته فقط، وإنما يقتسم العبء معهم مثقفوه، فهم الذين عليهم أن يرتادوا الآفاق والمجاهيل، ويتسلقوا سلالم العلم والأدب؛ ويتداخلوا مع الثقافات والحضارات الأخرى؛ ليجنوا منها جميعا ما حسن وسما، ويجنبوه ما هزل وضعف وذل.

وحين يركن المثقف إلى ظل ظليل، وحقل وريف، وفنجان وكأس، وسفر تافه، وغيبة وحسد، ويظل يركض هنا وهناك يبحث عن فرصة لصوته مرة ولصورته مرة ولاسمه مرات ومرات، فالخسارة الوطنية فادحة دون شك.

العاطفة التي توجه ذاكرتنا الوطنية لا بد أن تكون صادقة شفافة، حتى لا تخدرنا، بل لتوقظنا، فنحن في سياق عالمي متسارع، لا يعرف التوقف، والموقع الذي يحتله الوطن هو الموقع الذي سيختاره الساسة والمثقفون، ولن يكفي اختيار الموقع، إذا لم ننجح في خططنا الموصلة إليه، ولن يكفي نجاح الخطة إذا لم نبدأ في التنفيذ، حينها سوف يسطع الهدف أمام كل ذي عينين، وسيكون النجاح حليفنا بإذن الله.

أحبك يا وطني.



اترك تعليقاً