أيتام النسب .. لماذا ؟؟ ومن ؟؟

هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد!!

لم أستطع أن أنسى خارطة الأسى التي رسمتها تجاعيد الوجع المزمن في وجه أحد ذوي الظروف الخاصة.. حين باح لي ـ وهو ابن بضع وعشرين عاما ـ بأنه يتعذب كل يوم بخطيئة أبيه وأمه!! يبكي ويناجيهم وكأنهما يسمعانه: لماذا صنعتم بي هذا؟ أية نزوة خرجت بكم من أفلاك النور والطهر والطاعة، إلى حفر الظلمة والرجس والعار؟ لماذا لم تفكروا إلا في إرضاء هاجس مجنون، وشهوة بلهاء طارئة؛ قضيتموها لحظات مسروقة من أيدي الزمن الغاضب عليكم، ولم تفكروا ـ أبدا ـ فيمن تكور في رحم الدنيا؛ لينطلق إلى الحياة مهموما بما صنعتما، ليعيش بلا والد ولا والدة ولا أخ ولا أخت ولا عم ولا خال ولا عشيرة!!

بينما تلقى ما لايقل عن 40% من هؤلاء معاملة قاسية حال ولادته لمحاولة إزهاق روح الجريمة في جسده النقي الطاهر، لقي بعضهم من يحمله من قارعة الطريق، أو من أمام مسجد، ويضعه بحنان، على صدره، ويذرف عليه دمعتين، نعم لقد وجد مأوى يعيش بين جدرانه، حين بادر بعض المحسنين باستضافته في بيته، ولكنه ما إن كبر وبلغ حتى أصبح غريبا على الدار، لا يحل لنسائه أن يتكشفن له، فاختار له رب الدار رحما جديدا يعود إلى جدرانه في شكل ملحق منزو بعيد عن داره وأهلها.

وفيما يقبع مئات البنات في عدد من الدور والفلل المخصصة لهن، تدار بين أيديهن نعم وخيرات تداعب الجسد، وتربي اللحم والدم، ولكنها لا تستطيع أن تجذب الروح إلى الروح، ولا القلب إلى القلب إلا ما ندر.

إن الواقع يشي بامتداد مشكلة الحرمان العاطفي الذي تعانيه فتيات يعشن بين أبوين وأسرة كاملة، حدا ببعضهن إلى الانحراف أو الهروب أو محاولة الانتحار، فكيف ببنات يعشن بلا أسرة!؟

إن الواقع يضرب ناقوس الخطر لما يحدث من استجابة خطيرة جدا لمفرزات الشاشات اليدوية والفضائية، بكل أشكالها وألوانها ومبهراتها ومغرياتها، وهم وهن بين أعين الأولياء في بيوتهم، فكيف بمن يعشن أو يعيشون خارج الرقابة المركزة، وتتاح لهن كل وسائل الاتصال؟!

إن الواقع ينطق بأن الاهتمامات التي توليها الجهات المختصة بهؤلاء وأمثالهم من الأيتام معروفي النسب الذين ترعاهم جمعيات البر في المملكة، هي اهتمامات كبيرة وسخية، ولكنها مركزة ـ في الغالب ـ على الاحتياجات العامة؛ كالغذاء واللباس والمأوى والتعليم. وكلها احتياجات تقع في رأس الهرم للاحتياجات البشرية، ولكنها تتقزم أمام الاجتياجات التربوية والنفسية.

ماذا صنعت تلك الجهات الحكومية والخيرية للأيتام من برامج (دائمة) وليست (مؤقتة)؛ لتؤهلهم للنجاح في الحياة، للسعادة فيها، للقدرة على تخطي عقباتها، للصعود على سلم أمجادها، لتصحيح النظرة في عيون كسيرة، ربما حقدت أو حسدت أو تخاذلت عن معركة الرقي والتطور؛ لأنها ولدت في ظرف خاص!! مع أنها قلوب طيبة بفطرتها، وبحبها للحياة الهانئة.

نعم: وما جنيتَ أنت على أحد.. بل الجاني الأول هما أبواك، ولكن قد يكون الجاني الثاني هو الذي يهمل احتياجاتك النفسية والتربوية، ويتعامل معك كتمثال يصبغ بأجمل الألوان، ويوضع في أفضل الأماكن، ويتجاهل أعز ما فيك وأكرم؛ وهي الروح، والقلب، والمشاعر.

إنني أتمنى على الجهات الخيرية الكبرى أن تفطم أقسام الأيتام من صدرها الرؤوم؛ وتدعو إلى تشكيل جمعية خاصة بهم في كل محافظة، أو على الأقل في كل منطقة، وتوضع في أيدي قلوب رحيمة وواعية كذلك بثقل مسؤولية بناء الإنسان بناء متكاملا؛ ليخرج لنا أمثال محمد بن إدريس الشافعي وتلميذه أحمد بن حنبل؛ أعلاما نجباء، امتازوا بغزارة العلم، وتقوى الله تعالى، والنصح والدعاء لأولياء الأمور في أشق الظروف وأحلكها، وهما يتيمان.

إن الأيتام ذكورا وإناثا، من ذوي الظروف الخاصة أو ممن فقدوا آباءهم، بشر .. إذا أحسنت الجهات المعنية بتشكيلهم، وتطويرهم، وتوظيف طاقاتهم؛ كسبت أجرا لا ينفد، وعزا لا يحد، ومسقبلا آمنا منهم وبهم ولهم.



اترك تعليقاً