أين من يريد الوظيفة ؟؟

لم أكن أتوقع هذا الرد .. فقد جاءني يعتذر عن وظيفة طلبها باختياره ، لماذا ؟ ليست هناك أي فلسفة معينة يستند إليها إلا طلب الراحة والسكون والدعة .. والبحث بكل (برودة) عن وظيفة أكثر تلاؤما مع شخصيته (الفذة)، وفي الوقت الذي يناسب (سعادته).

هذه النفسية تزعجني ، تشعل الألم في خلايا دمي ، تجمعني ثم تمزقني ، ثم ترمي بي بين نفايات الأحزان المزمنة؛ كورقة (رزنامة) انتهى يومها، فلم تعد لها فائدة.

يا ألله ! كيف يفكر مثل هذا الشاب؟ ماذا ينتظر من الحياة من حوله؟ هل ينتظر أن تظل ترعاه، وتحن عليه، وتشفق على التواءات الملل المتجعدة في وسط جبينه؟!

من يفكر مثل هذا التفكير لم يعرف خبايا الليل والنهار، ولم يجرب مرارة الحاجة إلى الناس، ولم يذق يوما ما الموت الذي ينهشه حينما يطلب منه ولده حاجة من حاجات الحياة فلا يجد لديه ثمنها، ولم يعتصر قلبه هم الإيجار نصف السنوي الذي تمر شهوره الستة كلمح البصر، ولم .. ولم يعرف الحياة الحقيقية التي لا تعذر أحدا أبدا ..

من يظل ـ من شبابنا ـ يسب الشركات؛ لأنها لم توفر له وظيفة، ويتهمها بتفضيل غير المواطنين عليه، ويشن عليها حربا شعواء؛ لأنها تشترط خبرة أو شهادة أعلى من شهادته .. من يفعل ذلك فكأنما يحك جربه، ليريح جلده لحظات، وينسى أنها ستزداد قيحا وصديدا بعد أن يرفع أظافره ..

إن صناعة الذات، وتأهيلها لأية وظيفة مناسبة لقدرات الشاب الجاد هي الوسيلة الوحيدة التي تبشره بمستقبل وظيفي أفضل.

والموهبة هي الكنز الحقيقي لكل إنسان، من يملكها فقد ملك زمام الوظيفة بإذن الله، فيتحول من طالب إلى مطلوب، من باحث عن رائحة الوظيفة، إلى ملك على عرش الخبرة، كل يخطب وده، ويتمنى أن يكون في صفه، كما يؤكد لي ذلك بعض الموهوبين.

ومحاولة اكتشاف الموهبة الكامنة ليست رهينة ما يسمى الصدفة، إذ ليس هناك شيء يقع صدفة، وليست محاولة خاصة بالآخرين يستجديها الشاب منهم، بل هي فعل ذاتي يجب أن يتم داخل النفس، ومحاولات تبذل في أكثر من طريق، وأكثر من علم، وأكثر من فن؛ حتى يقع الباحث على ذاته الحقيقية التي كان يبحث عنها، و(كل ميسر لما خلق له).

ويمكن أن يستفيد المرء ممن حوله في تشخيص نفسه؛ فالمسلم مرآة أخيه المسلم. والمرآة لا تكذب. ولكن يجب أن يكون هذا الصاحب شخصا مختصا، أو حكيما، أو يملك قدرة خاصة، أو صاحب موهبة، فإن المبدع هو الذي يكتشف المبدع، إذ كل يمتح مما عنده.

وهنا تأتي المهمة الثانية بعد اكتشاف الموهبة ، وهي مرحلة رعايتها وصقلها ، وبذل المال والوقت والجهد لتطويرها، فهي تماما كالأرض الزراعية التي تكمن فيها الحياة كمون النار في الحجر، ولكنها لا تظهر عليها حتى تتدفق عليها الأمواه والأموال، وتحنو عليها الظهور العارية، والسواعد السمراء.

إن الوظيفة تصنع ولا تطلب، والرجل هو الذي يحفر بعرقه الصخور حتى تورق، والمستقبل لا تشكله غمائم السجائر المطرودة من كهف الهموم والكآبة، ولا أطياف الأمل المشلول بداء الكسل.. من أراد الرزق فليخرج مع الطيور ليعود كما تعود برزق الله تعالى .. والأُسْد لا تعدِم الفريسة..

وإذا كان لا بد من زاد في طريق تأهيل النفس وتسنيمها المكان الأسمى .. فإنه الصبر والجلد الذي يجعلك تحافظ على مكاسبك مهما كانت صغيرة.

وتحديد الهدف الذي يجعلك تبحث عن الوظيفة التي تغنيك، لا الوظيفة التي ترضي هواك، التي تحقق وجودك وذاتك وموهبتك، لا التي تحقق لك شيئا من رغباتك، التي تضيف إليك خبرة ومعرفة ودراية، لا التي تشغل وقتك فحسب.

يقول الفاروق ..

أرى الرجل فيعجبني ، فإذا علمت بأنه ليس له عمل سقط من عيني.



اترك تعليقاً