تزاحم الأزمات والفقر المقنع

لم تكن أزمة الأسهم الماضية لتصيب الناس في مقتل لولا أن الخواء، بل أدنى من الخواء هو الصفة التي تنطبق على ميزانية كثير منهم، لا أقصد الأسر الممتحنة بداء الفقر، بل تلك التي لها دخل ثابت يكفي حاجتها، ويناسب مستواها، ولكنها لا تمتلك منهجية التخطيط التي تضمن لها      ـ بإذن الله ـ الاستقرار المادي.

مرت أزمة الأسهم بكل تداعياتها المالية والنفسية والأسرية التي أجزم بأنها لم تنته بعد .. ثم تلتها أزمة الفتنة بالسفر خلال الإجازة مهما كانت الظروف الاقتصادية للأسرة، مما قد يُحدث أزمات عائلية شديدة، قد تصل إلى حد الطلاق.

بعدها ـ مباشرة ـ دخلت أزمة المستلزمات الدراسية، ستعقبها أزمة مشتريات رمضان، التي تتلوها أزمة مشتريات العيد.

حقا كل هذه أزمات تثقل كاهل معظم الأسر المتوسطة الدخل، فضلا عن الأسر الفقيرة، وما ذاك من قلة المال، ولكن من قلة التدبير.

على أن ارتفاع مستوى التطلع المادي عند عموم الناس اليوم إلى ما تتمتع به الأسر عالية الدخل من حالية مرفهة ـ ولو لم تكن قادرة عليه ـ هو الذي جعلها تحشر في نفق الأزمة الدائمة؛ مما دفعها إلى أن تكون رهينة أزمة الديون الرهيبة، التي جعلت أعزة القوم أذلة، وأذاقتهم مرارة السجن، وهم الليل، وقهر الرجال.

وحين تصنف الأسر تصنيفا اقتصاديا، فإنك ستجدها بين غنية وفقيرة ومتوسطة الحال، ولكن هذا التصنيف غالبا يكون بالنظر إلى الدخل، والحقيقة أن التصنيف ينبغي أن ينظر فيه إلى النسبة بين الدخل والإنفاق. فمن يستلم عشرة آلاف ريال شهريا، ويصرف عشرين، هو فقير مقنع بغشاء رقيق من خداع النفس بأنه غني. ولكنه يرفض أن يصنف فقيرا، والحقيقة أنه ربما كان أفقر من الفقير؛ لأن الديون التي عليه أضعاف ما يملك، والفقير هو الذي لا يملك قوت يومه، أو الذي لا يكفيه دخله لتغطية الضرورات والحاجات في حياته.

وهنا أجد أن الخالق عز وجل قد وضع حلولا وقائية لخلقه، يمكن أن أذكر بعضها، لعلنا ننقذ بقية حياتنا من قلق الفقر المقنع:

أولا: قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [29 سورة الإسراء]. فالإنفاق يجب أن يكون متوسطا بين البسط والقبض، أي أن ينفق حسب ضرورات الحياة وحاجاتها، ويدع للمرفهات ميزانية محددة لا يسمح لها أن تطغى على باقي البنود. ولا بد من التوفير، الذي يحدده بعض الإداريين بعشرين في المئة من الدخل الشهري. والذي ينبغي ألا يمس حتى يبلغ قدر ثلاثة رواتب شهرية، وما زاد عنها يمكن استثماره بدون مغامرات شديدة الخطورة، بل في مشاريع مدروسة الجدوى، بحيث لا يوضع البيض كله في سلة واحدة.

ثانيا: قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [7 سورة الطلاق]. فالله تعالى يتيح للثري أن ينفق أكثر من المتوسط، والمتوسط أكثر من الفقير، فهوـ عز وجل ـ يريد أن يرى أثر نعمته على عباده. ولكنه ـ سبحانه ـ يضمِّن الآية الكريمة معنى عظيما هو أن من ينفق بقدر دخله فسوف يستقر ماديا، ولو وقع في أزمة فإن الله تعالى تكفل أن يجعل له بعد العسر يسرا، أما من ينفق خارج هذه الدائرة المعتدلة، فإنه يوكل إلى نفسه، ولا يشمله هذا الوعد الإلهي العظيم.

ثالثا: قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [(276) سورة البقرة]. فالمجازفة بأموال الأسرة في دروب الحرام الملتوية؛ كالربا والرشوة والسرقة والاختلاس والمتاجرة في المخدرات والمحرمات عموما، يعرض الأسرة لخسارتين؛ الأولى في الدنيا؛ وهي خسارة المحق المذكور في الآية السابقة، والتي رآها المشتغلون بتلك المحرمات في حياتهم رأي العين، والأخرى في الأخرى كما يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (( يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به [رواه الدارمي(14481)].

لمحة

سئل أحد الأغنياء: كيف جمعت هذه الثروة الضخمة؟! فأجاب: بقلة المصاريف وحسن تدبيرها.



اترك تعليقاً