تتابعت علي في الأيام القليلة الأخيرة استشارات عديدة قصصها متقاربة متشابهة، إنها شكوى القلب من الجسد، وخذلان الضعيف من السند، انطلقت من أفواه مكممة بالحياء، مقفلة بالظلم، مقموعة باسم الأبوة، في مجتمع مسلم كان يجب أن يصغي إلى مولاه خاشعا ذليلا؛ فيستجيب لأوامره ونواهيه، ولا يحكم العواطف المريضة، ولا يدع لها فرصة الاعتداء على أقرب الناس إليه.
إنه وأد من نوع آخر، انحرفت فيه المشاعر الأبوية انحرافا مسيئا للإنسانية، حتى فاجأنا شاعر هؤلاء بقوله: أحب بنيتي وودت أني، دفنت بنيتي في قاع لحدِ، وما بي أن تهون علي لكن، مخافة أن تذوق الذل بعدي، فإن زوجتها رجـلا فـقـيـراً، أراها عــنده والــهم عـندي، وإن زوجتها رجـلاً غــنــياً، سيلطم خدهـا ويسب جدي، سألت الله يأخذها قريباً، ولو كانت أحب الناس عندي.
أسمعتم بمثل هذا الجور المغلف بالحب؟
أما أنا فقد سمعت من أفواه الضحايا مباشرة، وقرأت ما خطته أناملهن بنفسي، فتفاجأت أن يبقى بيننا من يخالف قول الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ[النساء:19].
فتاة تقول: إننا حبيسات بيتنا منذ سنوات، فكل فتاة تنهي السادسة الابتدائية تدخل هذا السجن المنزلي، فلا يحق لها أن تزداد علما، ولا تخرج إلى الحياة، ولا تتزوج، بينما أبونا تزوج أكثر من واحدة!!
وثانية تتضرم بشكوها وتقول: إنني وأخواتي سجناء المنزل، لم تتزوج منا واحدة، بل صرح والدنا بقوله: لا تحلم أية واحدة منكن أن تدخل على زوج؟!!
وثالثة تهمس بخوف شديد وتقول: لقد كبرت.. أريد الزواج، ولكن أبي يشترط شروطا من الصعب توفرها في الخاطب، ووالله لو يدري بأنني أقول ذلك لأحد لضربني على وجهي، وقهرني.
ورابعة تقول: لا يدري والدي ما فعله فيَّ عندما حرمني ممن خطبني ورفض تزويجي منه. إنه لم يفكر في أبنائه وبناته ماذا سيقولون عنه، فهو بتعامله هذا صنع حاجزا عظيما بيننا وبينه. أب لا يعينك أن تبر به بسبب تصرفاته وجفافه وقسوة قلبه، يجعلك تجامله وتنافقه، وتكره أن تبره وتطيعه. أصًرخ كل ليلة وأبكي كل حين، ولا يعلم حالي إلا الله وحده، الأيام تمر وتمر وأنا لم أبدأ حياتي بعد، متى سوف أبدؤها؟ لا يخفى عليكم زمن الفتن الذي نعيشه والانفتاح؟! انتهى كلامها.
إن هذه الكلمات تقرع جرس الإنذار في أذني كل أب لا يزال يعيش بلا قلب، وهو يستمتع بحياته الزوجيه، ويحرم فلذة كبده من مثلها، ويزج بها بين أيدي الفتن زجا ثم يلومها إذا لطخت وجهه بالعار لا قدر الله.
إنه فتح لباب الشر على مصراعيه، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: ” إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير [حسن].
لقد رصد أحد الباحثين هذا الفساد وأثبت أن معظم بنات الأسر المحرومات عاطفيا كن يرغبن في تغيير مناخهن الاجتماعي والأسري المضطرب بالزواج ولكن وجدن معوقات حرمتهن من الزواج فلجأن إلى الجريمة.
إن الأب السوي يرجو أن يبقى له عند أولاده ذكر حسن، ودعوة صالحة، فهل يتوقع من قضى على سعادة ابنته أن تدعو له؟ بل إنها ستتمنى موته حتى تبدأ حياتها!! رضي العاضل أم سخط. وفرق بين من يبقى هم بناته في قلبه حتى يزوجهن من يرضى دينه وخلقه، ولا يرتاح حتى يدخل آخر واحدة على كريم نبيل، وبين من طعن فتياته في قلوبهن حين منعهن من حق الحياة السعيدة.
قد تحجم البنت عن الاتصال بهيئة حقوق الإنسان أو الشكوى عند المحكمة، حفاظا على هيئة والدها وسمعته، ولكن لا بد للمظلوم أن ينفجر، والله العدل يقول: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}.
مفاجأة: في موقع وزارة الصحة نشر خبر مفاده: أن ثلاث بنات رفعن دعوى ضد والدهن لاتهامه بعضلهن، وتسببه في عنوستهن، حتى تعدت أصغرهن ستا وثلاثين سنة، والثانية تسعا وثلاثين، والثالثة أربعين عاما. وأمام القاضي في المحكمة العامة بالعاصمة المقدسة سكت (قلب) الأب المسن ليلفظ أنفاسه الأخيرة ؛ أقول: لتبدأ حياة بناته!!
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.