رحلت قبل أن ترحل

هكذا يوقظ الموت سيرة الرجال، حين تطفئ الدنيا وهجهم وهم على قيد الحياة، ويعيشون على هامش الوجود، وهم الذين كانوا ملء السمع والبصر.

أهو الجحود؟ أم هو العقوق؟ أم لأن لكل زمن رجاله؟ أم هي الدنيا؛ أجيال تعقبها أجيال، وأزمان تطويها أزمان، بكل ما فيها، حتى العلماء؟ لا.. العلماء لا يمكن أن تطويهم أيدي النسيان، ولكنه الواقع الذي فرض تداعيات في غاية الخطورة؛ من أبرزها: بعد الكتاب عن أيدي الجيل؛ لأنها انشغلت بالأزرار التي تطوف بها في غابات مليئة بالعنف والإباحية؛ تلاعب فيهم رغباتهم الدنيا، وتجمد فيهم مواهبهم وعقولهم وسماتهم العليا.

من ذا الذي لا يعرف (حسن أيوب) ممن هو في العقد الرابع من عمره على الأقل؟

ومن الذي يعرفه ممن هم في العقد الثاني فما دون؟

كيف تنسى ذاكرة الأيام صوته القوي، وهو يهوي بكلماته على المنبر، ويضرب بكفه المكتنزة خشباته فتشاركه مشاعره الصادقة، تئن معه، وتغضب معه؟

أين ذهبت أصداء حديثه العذب، الممتزج بين الفصحى التي أحبها، والمخارج المصرية للحروف العربية، وهو يضغط على الكلمات بقوة الحب الذي يحمله للناس وهو يعظهم؛ فتعطيه طابعا خاصا يميزه عن كل خطباء عصره، الذين كان من بينهم الشيخ عبد الحميد كشك، والشيخ محمد الشعراوي.

كان حديثه ملونا بالجد حتى الغضب، والمزاح حد الهزْل، متنوعا كما تتنوع أثواب الحياة بحسب فصولها؟؟

هل تستطيع السنوات العجاف أن تمتص أكثر من ألف شريط صوتي ومرئي، كانت تحتضن عطاءه الاجتماعي الفريد أولا بأول، وهو يتحدث عن السلوك الاجتماعي في الإسلام، ثم يجمع شتات ذلك في كتاب لا ترقى إليه الرسائل العلمية في دقة المعلومة، وروعة السبك، وجدة الطرح؛ حتى غدا هذا الكتاب الفريد موسوعة اجتماعية، استدعت النصوص الشرعية في مكانها، وطرحت ـ بكل صراحة ووضوح ـ قضايا لم يلتفت لها كثيرون قبله؛ حتى فتحت أبوابا كانت موصدة، بل كانت مغفولا عنها تماما، في خضم الحديث المنبري الذي كان يدور في فلك موضوعين اثنين غالبا؛ الوعظ والسياسة، وبقي الجانب الاجتماعي في زاوية الإغفال، ففتح حسن أيوب بابه، فدخل منه كثيرون صاروا فيه أعلاما بعده؛ كما ترجم الكتاب إلى اللغة الإنجليزية.

في نهاية الأسبوع المنصرم يوم الأربعاء الموافق 13 رجب 1429هـ، شيَّعت أم الأعلام مصر الكنانة جنازة الشيخ حسن محمد أيوب الداعية الإسلامي، والمصلح الاجتماعي الكبير، عن عمر يناهز الـ90 ربيعا.

بطاقة تعريف لشباب الجيل الحاضر:

الشيخ حسن أيوب من مواليد محافظة المنوفية- جمهورية مصر العربيةـ ومن علماء الأزهر الشريف, حيث عمل بعد تخرّجه في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر عام 1949م، مدرسًا بوزارة التربية والتعليم المصرية، ثم موجِّها بوزارة الأوقاف فمديرًا لمكتبها الفني. كما عمل في الكويت واعظًا وخبيرًا ومؤلفًا في الشئون الدينية، ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية أستاذا للثقافة الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز، ثم أستاذا بمعهد إعداد الدعاة بمكة المكرمة.

حسن أيوب لم يمت، ويكفيه تلاميذه، الذين يأتي على رأسهم الشيخ أحمد القطان الداعية الكويتي المعروف، الذي كان يحفظ للشيخ حسن أيوب ـ في بداية توجهه للخطابة ـ بعض كلماته وخطبه، ويلقيها في المساجد والمجتمعات، فكانت انطلاقة له.

نعم .. قد مات قوم وما ماتت مآثرهم، وعاش قوم وهم في الناس أموات

ترك الشيخ للأجيال القادمة عشرات المؤلفات التي تنوعت بين الفقه وعلوم القرآن والحديث والأخلاق والسيرة. كما ألف للأطفال عددا من القصص التربوية، ومن مؤلفاته فقه العبادات، وتبسيط العقائد الإسلامية، والجهاد والفدائية في الإسلام، ورحلة الخلود، ورسائل صغيرة في موضوعات مختلفة كالصلاة والحج ونحو ذلك، والموسوعة الإسلامية الميسرة، وهذه الموسوعة هي آخر ما كتب الشيخ وتبلغ حوالي خمسين جزءًا من القطع الصغير، وهي شاملة لكل كليات الإسلام وفروعه وعلومه ومعارفه المختلفة، تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته.



اترك تعليقاً