حين يبزغ الصنم

في أربع حلقات ساخنة فجرت الدكتورة أسماء بن قادة ـ في الراية القطرية ونقلتها اليوم السعودية ـ قضية الازدواجية التي يعيشها بعض الموسومين بالتدين، والانفصام الخطير في حياتهم بين المعتقد والسلوك، حين يتضخم صنم الذات، ويؤله الهوى، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [سورة الفرقان 25/43]، وتبيت الهوية الملتصقة بالشخص بعيدة عن حقيقة تعامله مع الحق سبحانه، ومع المنهج الذي ينسب إليه، ومع الذات التي اصطبغت به ظاهرا، ومع الأسرة التي تنكشف بينها دخائل النفس؛ إذ لا حواجز، ولا مسوغات، ولا خوف.

والإشكالية الكبرى حين يقوم العامة بتنصيب صاحب هذه الشخصية أو تلك قدوة لهم، لكونه يتزيا بمظهر المستقيمين، أو يحتل منصبا شرعيا، أو تخرج في كلية شرعية، أو يعمل في ميدان خيري، أو.. ثم يبنون عليها صورة الإسلام (العصري) الذي ينبغي أن تسود، ويحتجون بتصرفاته لتفلتهم من أحكام الشريعة، فضلا عما قد يصدر عنه من فتاوى ورؤى ومواقف بعيدة عن الاجتهاد الأصيل، أو حتى الجدارة العلمية أصلا. وهذه الصورة ليست غائبة عن النصوص الشرعية الثابتة؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا، أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).

فالمظهرية التي يبدون بها تهيئ لهم حماية كافية، ليمارسوا السوء في السر، وربما قدموا بها {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [سورة الطارق:9]. وتتكشف الحقائق، فيكون ((أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد. فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت. ولكنك قاتلت لأن يقال جريء. فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن. فأتي به. فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم. وقرأت القرآن ليقال هو قارئ. فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله. فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت. ولكنك فعلت ليقال هو جواد. فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه. ثم ألقي في النار))؛ رواه مسلم.

وهذه التشوهات والدمامل في وجه التدين الخادع موجودة في كل زمان ومكان، حتى في زمن النبوة، والبحث فيها مريع، وقد يكون مرفوضا، وهو ما جعل عددا من الظواهر تتفاقم في هذا الوسط الرائع الذي يمثل رأس الهرم المجتمعي وقدوته، وتتسع تلك الدوائر الصغيرة، وقد تترك آثارا ربما صعب تداركها، بل قد تصبح ـ مع مر الزمن ـ هي الأصل، ويتحول الأصل إلى شذوذ، وهنا تقع الكارثة.

وإن الدعوة الإسلامية ـ بعيدا عن كل أنماطها المعاصرة ـ جوهر نقي لا يقبل حتى آثار اللمسات، لأنها لا تمثل أشخاص أو هيئات حامليها، بل هي عبادة يمارسها الفرد ويمارسها المجموع، تمارسها المؤسسة الرسمية بروح التطوع، وتمارسها المؤسسة التطوعية بنظام رسمي، والعدل هو أساسها، والإخلاص هو سر نجاحها.

إن الخوف على الدعوة ذاتها لا مسوغ له؛ لأنها محفوظة من الله، ورسالة نزلت لتهيمن، ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وأهله وذلا يذل الله به الكفر)) [رجاله رجال الصحيح]، لكن الخوف هو على الدعاة، لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة المائدة: 54].



اترك تعليقاً