شهور ضاحية مكتنزة بالإنجاز والسعادة شخصت أمامي؛ حين رأيته الأسبوع المنصرم يتسوق، متشحا بالبياض في الوقت الذي يتشح غيره بألوان الشتاء!! كأنما ساقني الله تعالى تلك الليلة لأكحل عيني برؤيته ثم أودعه وداع الدنيا الأخير؛ ليبقى أمل لقائي به على سرر مصفوفة عزائي الأكبر برحمة من الله وغفران.
لقد أحببت هذا الشاب كما أحبه كل من عاشره، فكيف وقد خالطته بضعة أشهر في مركز التنمية الأسرية، حين كان في بداياته، فرأيتني ـ بتشجيع منه ـ ألقي بالأعباء التي تتطلب الثقة الأعلى على كاهله الفتي؛ فيبدع ويطلب المزيد.
فاجأني بأنه ينوي ترك المركز إلى جامعة الملك فيصل؛ ليعمل عملا رسميا، فرحت له، وحزنت للمركز.. لقد كان مثال الموظف المخلص لعمله، المتقن لدوره، حاولت أن يبقى؛ ليقوم بالعمل خلال الدوام المسائي، ولكنه أبى حين رأى أنه لن يؤديه كما كان؛ بسبب تكليفه بأعمال إضافية في الجامعة؛ ففقدته حقا .. ولم يبق لي إلا أن أعرض عليه العودة في أية فرصة تحين .. وقلت في نفسي .. كثيرا ما يفتقد الكبار فكيف للفتى أن يفتقد؟!!
لقد حدث الأمر نفسه في الجامعة، فبعد زمن يسير عرفوا عبد الرحمن بن محمد العمير الذي لم يتجاوز منتصف العقد الثالث من عمره إلا بأيام .. عرفوه كما هو .. فإذا بهم يدفعون بالأعمال المهمة ذات الحساسية الخاصة إلى يديه الصناعتين، فينتج ويعطي وينجح.. والآن .. وبعد أن لقي الفتى ربه .. فسوف يقول رؤساؤه وزملاؤه في الجامعة ما قلت في نفسي .. كثيرا ما يفتقد الكبار فكيف للفتى أن يفتقد؟!!
وهو في بيته أرق وأعذب .. ريحانة عطر تموج بالحنان والحب، يتلمس رضا والديه وخدمة أخواته تلمسا، لا تكاد البسمة الصافية النقية ترحل عن مباسمه لحظة، تزوج قبل أقل من نصف عام، فلم يزدد من والديه إلا قربا، وحبا، وسعيا في طلب رضاهما عنه.
ماذا عن هذا الأنموذج الرائع بين شبابنا .. لقد عاش في بيت علم وأدب وصلاح، هذا ما نحسبه فيهم ولا نزكي على الله أحدا؛ فأسرته (العمير) لها امتدادها التاريخي في العلم والورع، ووالده الدكتور محمد بن عبد الرحمن العمير عميد كلية التربية بجامعة الملك فيصل، ابن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأستاذ الشريعة والثقافة الإسلامية والحديث النبوي الشريف، وإمام وخطيب جامع المثلث، والداعية المعروف، ووالدته وإخوانه وأخواته كلهم من ذوي الصلاح والعفة والمعروف، يا لها من نبتة طيبة في روضة مباركة طهور.
الموت حق .. والحزن مشروع .. والدمع يريح القلب لحظات، ثم يتركه يتلظى، والفراق أكبر من أن يقال عنه: مؤلم، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد تأملت في قول الله عز وجل: {إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ } [سورة الصافات 37/106] . بعد أن ذكر الله قصة ابتلاء إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل، فعلمت أن الله علم ـ سبحانه ـ بأن من أشد الابتلاءات أن يبتلى الأب بفقد ابنه؛ فحب الولد فطرة، ولا ينغص نعمة الأولاد مثل الخوف عليهم من أن يقع بهم مكروه، فكيف إذا وقع!؟!
ولكن الله تعالى يبتلي الأنبياء والصالحين في أحب ما يحبون؛ ليمحض حبهم له تعالى؛ فلا يبقى شيء لديهم أحب إليهم منه عز وجل.
وأحسب ـ والله الحسيب ـ أن والد فقيدنا الشاب قد نجح في الاختبار .. فما زاد ـ في قول ولا فعل ـ عن استرضاء الرب عز وجل بحمده وشكره والثناء عليه، وسؤاله تعالى أن يجمعه بحبيبه في جنات عدن، وانهمك في ذكر محاسنه التي تعز على معظم شباب اليوم، حتى عجز الناس عن أن يعزوه بقدر ما عزاهم هو، وهو الذي ذاق أحر الفقد وأمضه بفقده حشاشة فؤاده، وقطف روحه.
أيها الوالد المصابر .. يا من فدَّيت حبيبك الأعظم صلى الله عليه وسلم بأبنائك جميعا وقلت قولة المؤمن المصابر في الصدمة الأولى: ((والله إن مصيبتي في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهي أشد في نفسي من مصيبتي في عبد الرحمن وإخوانه جميعا)). سلم الله لك إخوانه وأخواته وأمهم وأحبابك جميعا، وجعلهم ذخرا لك ولدينك وأمتك.
وإني لأبشرك بما بشر به أبو طلحة الخولاني أبا سنان بعد أن دفن ابنه البكر فقال له: ((ألا أبشرك يا أبا سنان، قلت: بلى، قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد)) [رواه الترمذي وقال: حسن غريب ح (1021)].
رحمك الله يا عبد الرحمن وأسكنك فسيح جناته، ورزق أبويك وزوجك وذويك الصبر والاحتساب.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.