سامحني يا أبي ..

لن تكون أحداث زيارتي لدار الملاحظة في الدمام مثل أية زيارة توعوية أخرى؛ ذلك لأنني فجعت بوجود شباب في أعمار الزهور، كان يتوقع أن أحدهم إلى جوار والده في متجره، أو جالس في مركز علمي ليتعلم لغة أو مهارة، أو أنه في زاوية من زوايا مسجد يحفظ كتاب الله، أو يقرأ كتابا أو قصة، أو على الأقل بين المراجيح في إحدى مدن الألعاب، ولكني وجدته في قبضة سياج مغلق، مهما كان مفتوحا في داخله!!

كان المتوقع من أحدهم أن يفخر بنتيجته، أو يشمخ بخياله إلى حيث سماوات الطموح والتألق، أو يرسم خطوات مستقبله، لكنه الآن منكفئ على نفسه، تمر به الليالي في ندم وحسرة وخجل شديد من والديه، اللذين خاب فيه رجاؤهما، وانطفأت بسبب فعلته فرحتهما.

مبنى متميز، ونشاط مبهر، وتنظيم دقيق، زاده المركز الصيفي الذي قام به مركز التنمية الأسرية بالدمام ـ هذا العام قوة وتشويقا وروعة؛ حيث النشاط الرياضي المتجدد بأساليب مرحة؛ لتربية الجسد، وحلق للذكر لتربية الروح، ومهارات في الحاسوب واللغات والتفكير لتربية العقل، ومهارات عديدة لتربية السلوك.

ولكن ماذا بعد هذا المركز الذي سينتهي بعد أسبوعين؟!!

هناك برامج ولكنها لا تكفي.

وهناك عناية ولكنها بأيدي غير مختصين في التربية وعلم النفس والمجال الإرشادي.

وهناك تأهيل وظيفي، ولكن ليس هناك تأهيل نفسي لاستقبال الحياة بعد انقضاء فترة الحكم على كل فرد!!

الأمر خطير، فهؤلاء الشبيبة ـ وكلهم دون الثامنة عشر ـ دخلوا هذه (الإصلاحية) ليخرجوا منها مستقيمين، مستقري النفسيات، لا بد أن تتبدل نظراتهم للحياة ومن فيها من سلبية إلى إيجابية، من حاقدة إلى محبة، ولكن الواقع أن كثيرا منهم يعانون من ضغط نفسي شديد، فهم بين نظام الضبط في الدار والذي سيختلف من شخص إلى آخر، وبين ضغط الأسرة، والتي ستختلف من أسرة إلى أخرى!!

لقد سألت الشباب من سمع منكم شخصا يقول له: أنا أحبك، فأجاب بالإيجاب أقل من النصف، أي أن أكثرهم لم يسمعوا كلمة الحب من أقرب الناس إليهم.

بينما يوجد منهم من ترفض أسرته حتى استقباله، وتفضل بقاءه في الدار، ومنهم من يهدده والده، ويظهر له الوجه الغاضب الساخط، ويذكره بخطيئته!!

الحقيقة إن هؤلاء الشباب أكثر ما يحتاجون إليه هو الكلمة الحانية لا العصا الغليظة، والمرونة في التعامل، لا الحدية في الانضباط، والاستماع .. نعم الاستماع والاستماع أيضا!! لا إسماع الأوامر والتذكير الدائم بالجريمة التي ارتكبها.

وإذا ألحت علينا صورة الجريمة ببشاعتها، فلنتذكر أن هذا الشاب اليافع ضحية في الغالب، نعم ضحية، فإن (الإنسان) يولد مسالما، وليس هناك من يولد عدوانيا، وإنما هناك نسبة ضئيلة جدا في البشرية لديهم جينات خاصة تجعلهم قابلين لأن يكونوا عدوانيين عندما يعاملون معاملة خاطئة؛ سواء أكانت قاسية أم مهملة في تهذيبهم.

الحدث ـ إذن ـ ضحية تربية خاطئة، أو ضحية تأثير صارخ من الإعلام الهادم، المبني على فكرة الصراع والعنف والجنس، أو تأثير نافذ من أصدقاء السوء، وللآباء ـ أيضا ـ دور مهم فيهما كذلك، بفتح فرص التأثير على مصاريعها، دون وجود تخوف وتحسس كافيين منهما، والحدث أصغر سنا من أن يفهم خطورة هذا التأثير!! فإذا به يقع فريسة سهلة في أحضان العصابات التي تحيطه بعناية فائقة، وتدربه لتؤهله للفساد والإفساد؛ وهي إما عصابات فكر إرهابية، أو عصابات مخدرات أو سرقات أو …!

ومع ذلك كله فإن المركز الصيفي لم يقل للحدث: أنت ضحية لتربية خاطئة!! بل قال له: قل: سامحني يا أبي! لقد أتعبتك معي كثيرا، أعدك أن أكون عند حسن ظنك فور خروجي من هنا. لقد طلَّقتُ صديق السوء إلى الأبد، إنه سر إخفاقي وحسرتي التي أعيشها..

لابد من احتضان الحدث، والصبر عليه، ومنحه فرصة التعبير عن مشاعره، وطموحاته، بل ليبث أفكاره الخاطئة؛ ليتخلص منها، ويتطهر من أرجاسها، بل ليصرخ بمشكلاته التي عانى منها في بيت مفكك، أو تحت يد قاسية لا ترحم، ليجد من يأخذ بيده إلى بر الأمان.

الدار بحاجة إلى مرشدين نفسيين واجتماعيين ومربين، أكثر من حاجتها إلى أثاث أفضل، أو معلمين أكثر، أو مراقبين أكثر قدرة على الضبط..

بل الوطن كله في حاجة إلى استصلاح هذه الشبيبة؛ لاتقاء شرها مستقبلا، ولتشارك في صناعة الحياة، وحماية المنجزات.. بدلا من تخريبها.



اترك تعليقاً