شبابنا والإجازة

الفراغ كالصحة في كون الإنسان لا يكتشف قيمتهما إلا بعد أن يرحلا ويتركاه حسيرا ، فإذا كانت الصحة تاجا على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى : فالوقت أنفس ما عنيت بحفظه     وأراه أسهل ما عليك يضيع.

والفراغ نعمة منذرة بالزوال في أية لحظة ففي الحديث عن رسولنا : اغتنم خمسا قبل خمس، وذكر منها : وفراغك قبل شغلك .

والشباب هو قوة الأمة ومستقبلها؛ ولذلك توجه إليه السهام، ويستهدف بالكأس والحشيش، والوتر، والصورة المغرية، والمرأة المنحلة، والفكر المنحرف؛ لتنحل القوة ويضيع المستقبل.

الشيخ عبد القادر الجويني استشرف إشكاليات الشباب فقال لغلامه يوما: (( يا غلام: لا يكن همك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كل هذا هم النفس والطبع ، فأين هم القلب ، همك ما أهمك ، فليكن همك ربك عز وجل وما عنده )).

إن أمتنا خسرت كثيرا من الطاقات الشابة، سخروا ما أوتوا من مواهب في خدمة شهواتهم وتلبية غرائزهم، إنهم يعيشون ليأكلوا ويشربوا ثم ليموتوا دون أن يتركوا أي أثر إيجابي لهم على هذه الأرض التي كانت تنتظر محراثهم وبذرهم وسقيهم.

قال النبي يوما لزيد بن ثابت : (( أتحسن السريانية ؟ )) فأجاب : لا ، قال: (( فتعلمها ؛ فإنه تأتينا كتب )) ، قال زيد : فتعلمتها في سبعة عشر يوما. همة دونها نجوم السماء وكواكبها النيرة .

لا بد أن يعلم الشباب .. أنه لن يحقق مثل هذه الأهداف الجليلة في الأوقات القليلة إلا من عرف قدر الزمن، فقد كان المبدعون وصانعو الثقافة الإنسانية والتاريخ أحرص الناس على كسب الوقت وملئه بالخير، فقد كانوا يبادرون اللحظات عشقا منهم لجواهر الوقت الثمينة، وحرصا على ألا تذهب هدرا.

عدد من الآباء في هذه الإجازة لا يعلم أن أولاده يسهرون ليزرعوا الليل آثاما، ويحصدوا النهار نوما وبطالة، وما رأوا يوما لون الفجر ولا شموا رائحة زمنه المبارك، بل هل سيصدق شباب السهرات الآثمة تاريخهم حين يقول لهم : إن ابن عقيل الحنبلي كان يقول : (( إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح)). وأن ابن جرير الطبري ما أثر عنه أنه أضاع دقيقة من حياته في غير الإفادة والاستفادة))، وأن ابن الجوزي كان يقول: (( لو قلت إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب ))، وأن عددا منهم كان يستغل دقائق المشي في القراءة، وثواني بري الأقلام في تحريك اللسان والقلب بالذكر. وأن أبا يوسف كان يباحث عواده في مرضه الذي مات فيه في مسألة فقهية حتى لفظ آخر أنفاسه بعدها، وأن عبد الغفار الفارسي كانت لذته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم وطلب الفائدة من أي نوع كان.

نعم يجب أن يصدقوا ، فها هي ذي تآليف بعضهم تربو على المئات ، وإنما مرد ذلك توفيق الله لهم حين حسنت نياتهم ، وقد حفظوا الوقت ، وتخلوا عن الفضول في النوم والأكل والنزهات والزيارات ، فكانت لهم تلك المآثر الباقيات . حتى قال الإمام سفيان الثوري : (( إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك ، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام )).  حقا إذا عظم هدف الإنسان يفعل ما يشبه المحال، كما أن المرء إذا تدنت أهدافه أصبح يعيش على هامش الحياة لا يؤبه له ولا يشعر أنه عاش في هذا الزمان أصلا . فـ(( الذي ينام ملء جفنيه ، ويأكل ملء ماضغيه ، ويضحك ملء شدقيه ، ويقضي وقته لاهيا لاعبا عابثا ، فهيهات أن يكون من الفائزين )) .

وإن بيننا اليوم من رجالات الأمة: من تتوثب العزيمة في نفوسهم ، يعيشون في سباق مع الزمن،  في عراك مع طاقاتهم وإمكاناتهم، يحسون بأنهم دائما مقصرون، لا تفي أوقاتهم بربع برامجهم، يقدمون ويتقدمون، ويحسون مع ذلك بأنهم مقصرون، يزينهم التواضع الجم، ويتوجهم الخلق السمح، وليس لديهم زمن يسمعون فيه مدح محب معجب، أو ذم غيور حاقد، ولا يعنيهم أن يفندوا آراء الفارغين فيهم، الذين يتلذذون بالقيل والقال وكثرة السؤال ، لم يكتفوا بحوقلات المسنين ، ولا تنهدات كسالى الغيورين ، بل استعانوا بالله على ما أرادوا من تربية نفوسهم ، وخدمة أمتهم وبلادهم ، في عمل إيجابي فاعل .

طفرة .. من عرف حق الوقت فقد أدرك الحياة ، فالوقت هو الحياة .



اترك تعليقاً