طبت وطاب رحيلك

في لحظة زمنية حذرة، لا تزال القلوب ـ فيها ـ تهدهد نبضاتها بين يدي حرب ضروس، وضعت أوزارها، بعد أن تجرع الإنسان منها غصص الأوجاع، من مرائي انتزاع الأرواح البريئة من جسد الحياة دون ذنب، إلا أن يقولوا ربنا الله!!

في هذه الأوضاع المترقبة، انتفض الجرح من جديد في محافظة الأحساء، حين فجع النور المتهادي بين مساجدها، بأحد عمارها، بل فجعت الأوساط الاجتماعية والخيرية والدعوية بأحد روادها، بل فجعت بلدية الأحساء الراكضة في ميادين التطوير الشامل بأحد أكبر قادتها، بل فجع الليل بأحد قوامه، والنهار بأحد صوامه، وفجعت أم لا كالأمهات، كان لها ابنا لا كالأبناء، بين شغف الأمومة الهادر المتعطش أبدا مهما نهل، بولد كان البر ديدنه وهواه، وحليته من دهره ونداه، كيف لا تفقد إطلالته اليومية وابتسامته الرقيقة، التي تشق جدار الصمت في وحدتها وهي التي فقدت أباه قبل ثلاث سنين.. ليس كفقد الولد فقد!! وليس أي ولد.. إنه الشيخ المهندس عبد العزيز بن عبد الله النعيم، الذي جعل من حياته ميدانا للعلم الشرعي إلى جوار العلم التجريبي، فحفظ كتاب الله تعالى، بل والفقه الشرعي، وطلبه على أيدي أهله، وميدانا للعبادة المحضة فقد عرفته الدعوة والذكر والعمرة والصدقة، حتى تفاجأ الناس في عزائه بالفقراء الذين كان يصلهم ويتصدق عليهم ويخدمهم. وميدانا للعيادة الحياتية، التي أراد فيها أن يعيش دينه عملا مخلصا، إخلاصا تدرج به إلى أن وصل إلى منصب مديرا لبلدية، وفي هذا المحراب العملي استطاع الفقيد أن يرسم صورة المسؤول النموذجي؛ الذي يتعبد الله بعمله، فهو يخدم ولا يسيطر، ويقود ولا يدير، ويلتحم بموظفيه ويبش في وجوه مراجعيه.

والعجيب أن عددا من أصحاب الحاجات الذين كانوا يرتادون البلدية، يكادون يجمعون أنه كان يصر عليهم أن يخدمهم، بل ويؤكد أن يقدم هو الخدمة لهم، ويسهل أمورهم، ولا سيما حين يكون في ذلك خدمة بيت من بيوت الله تعالى، أو مقبرة، أو صلة رحم، أو جمع شمل، وهو ما شاهده ـ كذلك ـ مركز إكرام الموتى الذي كان الفقيد أحد أعضاء مجلسه الإشرافي.

نعم ومثل هذا تفجع به زوجة كان جمال حياتها، وتاج رأسها، وأنيس عيشها، وحلم آمالها، وقدوة أولادها، لم تسمع منه سوى الطيب من القول، ولم تر منه إلا الحسن من العشرة، كل ذكرياتها معه تمتد خضرة، وتنبت فلا، وتمتلئ عزا، وتموج مروءة ونبلا، بنيت حياته معها على المودة والرحمة والتعاون في لأواء الحياة ومجرياتها، وشراكة في تربية الأولاد وبنائهم.

ولذلك فمن حق كل هؤلاء ومن حق إخوانه وأولاده وأصدقائه ومعارفه، بل من حق كل محبي (الخير) الذي فقد (عبد العزيز) أن يحزنوا عليه ونحزن معهم، وهو ما تبدى للناظرين، فقد سار موكب نعشه من الجامع إلى المقبرة في حشود مهيبة لا تكاد ترى لها مثيلا، فالحزن الثقيل يضغط على القلوب، والدموع والاسترجاع والحوقلة متنفسات الوجدان المؤمن.

إن مثل هذا الأنموذج الفذ الذي جمع بين العلم والعمل، والدنيا والآخرة، وحرص على أن يعطى كل ذي حق حقه، ينبغي أن يبرز للناس، في زمن انتهكت فيه الحقوق، وضيعت فيه الأمانات، وتفرقت فيه السبل، زمن كثر فيه من يصدق عليه قول الله تعالى: {كلا بل تحبون العاجلة. وتذرون الآخرة}. فلا العاجلة المحبوبة أذعنت لطالبيها، وأسعدت محبيها، ولا الآخرة نيلت مراميها، وحضرت في دقائق الحياة وثوانيها، والله المستعان.

طبت يا عبد العزيز وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا..

هذا ما نحسبه فيك، والله حسيبك، وما شهدنا إلا بما علمنا، ولا نزكي على الله أحدا، ولا نقول إلا ما يرضي الرب إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.




اترك تعليقاً