طير شلوى

يُحكى أن ثلاثة أطفال توفي والدهم، ثم لحقت به والدتهم بعد ستة أشهر، تولت تربيتهم ورعايتهم جدتهم التي تُدعى: (شلوى)، وأسماء الأطفال الثلاثة: شويش وعدامه وهيشان.

كانت (شلوى) العجوز تشتكي من ضيق ذات اليد، مما دفعها للسير بين بيوت قبيلتها تطلب الأكل لأحفادها الثلاثة، ومن باب الاستعطاف تستجدي الناس بعبارة لطيفة: “ما عندكم عشاء لطويراتي؟!”، تقصد أحفادها الصغار.

سمع شيخ قبيلة قريبة منهم بأمر هذه العجوز، وأمر بنقل بيتها إلى جانب بيته ليرعاها هي وأحفادها، وكان عند كل وجبة يتذكرها ويسأل أهل بيته: هل أعطيتم الأكل لطيور شلوى؟  الذين كبروا شيئاً فشيئاً برعاية هذا الشيخ الكريم.

كانت القبيلة تقطن بالقرب من دولة متسلطة على جيرانها، طمعت في خيرات القبيلة، وظلت تطلب منها تقديم ضريبة دائمة، تقدمها بين وقت وآخر، ومن شدة طمعها بهذه القبيلة كانوا يُضاعفون الضريبة في كل مرة، ولم يكن أمام القبيلة القليلة العدد بالنسبة لتلك الدولة المترامية الأطراف إلا تقديمها لهم اتقاءً لشرهم وحكمة منه لحماية قبيلتهم.

ذات سنة جاء طلب الحاكم الظالم للضريبة غريباً ومُستهجناً، إذ طلب منهم ـ كما تقول الرواية الشعبية ـ تقديم: نساء!!، وصل هذا الطلب إلى مجلس الشيخ النبيل، ومن بين الحضور رجل عجوز شهم، استهجن الأمر واستعظمه، فاستنهض همة الرجال للذب عن عرض القبيلة، عندها قفز شويش أكبر أحفاد العجوز الثلاثة المدعوين بطيور شلوى، وقال رداً على سؤال الرجل العجوز أنا .. وأنا طير شلوى.. وانطلق شويش بفرسه منفرداً نحو جيش الأعداء المتجمع قريباً من القبيلة وضرب فيهم حتى تطايرت رؤوسهم، ثم لحق به إخوته عدامه وهويش، لقد استنهض طيور شلوى همة بقية القبيلة، ولحقوا بالثلاثة، ودخلوا في معركة ضارية، حُسمت لصالح القبيلة، وعادوا منصورين غانمين، ومن ذلك قالوا: (طير شلوى)، يريدون به الشجاعة والوفاء والرجولة والشهامة!!

قصة مثل شعبي، أجد أهمية طرحها في الوقت الذي تنتشر فيه صور تدجين الشباب، داخل الأسرة وخارجها، فما نشاهده من مظاهر التدليل، والتأنث، والتخنث، والتميع، في اللباس والكلام والمشي والعادات اليومية، وطريقة التفكير والأهداف والآمال، ينذر بخطر جسيم، إذ إن الوطن في حاجة ماسة إلى سواعد شبابه، ووفاء أبنائه، وإن واجب غرس حب الوطن في نفوسهم يجب أن تصحبه برامج عملية أسرية ومدرسية تسقي عروق الرجولة والفتوة في أجسادهم، مع إبعاد كل صور التأنيث.

والرجولة ليست مرادفة للذكورة أبدا، ولا تعني الصراخ وتكدير الجبين، ولي الأذرعة، وإنما تعني: النخوة والدفاع عن الحق؛ {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله}، وتعني حب الخير للقوم الذين ينتمي إليهم: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين}، وتعني الارتباط العظيم بالخالق العظيم، وفهم الأوليات جيدا، فما عند الله خير وأبقى: {يسبح له بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة}، وتعني الثبات على الحق مهما بدل الناس وغيروا، {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.

وتظهر هذه الرجولة في المواقف الجسيمة الحاسمة، حين يتقهقر الضعفاء، ويتمرغ الشهوانيون في الرغام، ويكتفي كثيرون بمراقبة المشاهد التي كانت تستدعي دخولهم في الأدوار الرئيسة فيها.

إن الحياة تحتاج إلى رجال، يواجهون خشونتها، ويذللون صعوباتها، كما تحتاج إلى نساء عظيمات؛ فالمرأة غير مغيبة هنا، بل هي العنصر الأبرز، فهي التي تصنع الرجال، كما صنعتهم شلوى، وإن كانت ـ بطبيعتها ـ في أشد الحاجة إلى رجل يساندها، وتعززه، ويحميها وتعضده، ويحبها وتفي له.

والوطن في حاجة إلى مثل شلوى وطيورها؛ .. يحمون ذماره، ويفون لحقه، ويذودون عنه كل باغ أو نذل أو معتد يقترب من ترابه الطاهر .. ولن يقوم بذلك إلا من كان (رجلا)..!



اترك تعليقاً