طيور الجنة ومستقبل لغتنا

يتلقى الإنسان لغته في طفولته المبكرة جدا، بل هناك من يدعي بأنه يبدأ تعلم أبجديات حروفه وهو جنين في بطن أمه، إذ إن أول حاسة تنشط عند الجنين هي حاسة السمع، ولذا يتأثر بكل ما يدخل سمعه.

تقول د. آريان آيزينبرغ وزميلتاها في كتابهنّ: (ماذا تتوقع عندما تنتظر الجنين)، إن حاسة السمع عند الجنين تكون قد تطورت تطوراً كبيراً مع نهاية المرحلة الثانية من الحمل أو بداية المرحلة الثالثة. ويعتقد بعض المختصين أنه يمكن إثارة الجنين قبل ولادته ليكون مولوداً متميزاً.

إذا كان هذا هو شأن الجنين، فكيف يكون شأن المولود، بل الطفل المكتمل الحواس، وهو يشاهد ليل نهار موادَّ في غاية الجودة الفنية، بل والإبهار الفني، مليئة بالألوان والظلال، تفيض باللغة، ولكن أية لغة؟

لقد نشأتُ في جيل كانت معظم برامج الأطفال بالإنجليزية، وكانت أفلام الكارتون أجنبية اللغة كذلك، ولكننا نستطع أن ننال منها أفضل ما فيها؛ وهي اللغة التي تتحدث بها، بل كانت المشاهد هي التي تجبرنا على المشاهدة، وهو دليل واقعي على ما ذكره المختصون من أن التلفاز العادي لا يعطي اللغة؛ لكونه غير تفاعلي، إذ لا بد من أن يسمع الطفل الكلمة عدة مرات، ثم يجرب نطقها مع الآخرين عدة مرات. ويعد التلفاز من أبرز معوقات خلق تلك الحالة من التفاعل بين الطفل وأفراد الأسرة.

ولكن مع تطور الأجهزة الفنية العربية، هوجم عقل الطفل العربي في فترة قصيرة جدا بمئات البرامج التي عُرِّبت لغتها، ولم تعرب مادتها، فضلا عن أن تؤسلم. ومع ذلك فقد كانت تحمل فضيلة تكريس الفصحى في ألسنة الأطفال؛ لتبنيها إياها؛ لتتناسب مع كل الدول العربية، بكل لهجاتها، فخرج جيل أتقن الفصحى مبكرا، ولو أنه وجد مساندة من الأسرة والمدرسة لفزنا بجيل الفصحى.

والجديد البئيس الذي اعترى برامج الأطفال حديثا هو اللغة المختلطة بين الفصحى والعامية في بعض أفلام الكارتون، أو العامية البحتة التي صدرت بها بعضها، ولكن الفاجعة هي أن تتخذ قناة واسعة الانتشار، محبوبة عند الأطفال العرب مثل (طيور الجنة) لغتها بأن تكون العامية البحتة في معظم إنتاجها، ويتعلق بها الأطفال الرضع، وينمون بين يديها حتى يشبوا، في الوقت الذي تلقي بهم الأم بين يدي التلفاز طوال ساعات اليقظة، فيفقدون لغتهم التفاعلية، ويتلقون لهجة غريبة عليهم، ويحفظون نصوصا ضعيفة المبنى، بحروف مغلوطة (فكلمة السوء على سبيل المثال، تعني في إحدى الأناشيد: السُّوق، ويسوق كما تعني معناها الأصلي كذلك)، وإن كانت تحمل ـ في الجملة ـ معاني جميلة، ورسالة طيبة.

إنني لا أشكك في نوايا أصحابها، ولا في حرصهم على الارتقاء بسلوك أطفالنا، ولكنهم ـ دون قصد منهم ـ يهدمون أساس الثقافة والتعلم في ألسنة النشء، ذلك لأن من أبرز أسباب الإقبال على القراءة أن يألف الطفل أو الفتى اللغة المدونة في الكتب، وهي الفصحى، فإذا افتقدها في الحياة، وأَلِف عامية شامية أو مصرية أو نجدية أو… فإنه لن يقبل على كتاب لا يكتب بها!!

ولذلك فإنني أدعو هنا إلى الإسراع في عقد لقاء تسوده المحبة وحسن النوايا بين علماء اللغة في مجامعنا العربية، وبين فريق العمل في هذه القناة بالذات، وأمثالها من القنوات الخاصة بالأطفال، لتحديد الأثر الذي تركوه في الفترة الأخيرة، مع الأثر الذي سيتركونه في أمتهم لو أنهم استخدموا الوسائط الفنية ذاتها لإشاعة الفصحى في ألسنة الناشئة، فإنما هي أمانة عظيمة، لا تقبل المساومة، ولا يجوز معها السكوت العام في الأمة، وأشيد هنا بقنوات الأطفال التي أصرت على الفصحى ونجحت، مثل مجد الأطفال، وروضة، وبسمة، وسمسم، وسناء، وغيرها.

لمحة: إن المستقبل رهينة إرادة اليوم، ولا يجوز أبدا أن يكون محل تنازل؛ لأن أحدا منا لا يملكه.



اترك تعليقاً