عرس الثقافة في بلادنا

لكل وطن وجوه متعددة يعرف بها على المستوى الإقليمي والعالمي، ولوطننا وجوه ناضرة في كل ميادين الحياة، وأبرز سمة في قسمات هذه الوجوه أنها أصيلة، تعتز بألوانها الطبيعية، وترفض كل مكياج مستورد؛ يزور جلدها.

شخصية بلادنا إسلامية، وسوف تبقى كذلك؛ مهما ازدادت أمواج المد الغربي بفكره المادي، وأيدلوجياته البراقة، التي ثبتت نفعيتها، ودورانها في محور الذاتية، التي تحكم كل العلاقات والقرارات والأحكام المصيرية على أساسها، حين تتساقط ـ في خريفه ـ كل دعاوى حقوق الإنسان، ودعاوى الديمقراطية، واللاحزبية، واللا طائفية.

غير أنها ثقافة ذات مقدرة قصوى على النظر الجريء إلى جميع الثقافات الأخرى حتى المعادية منها تاريخيا، للاستفادة منها، والتلاقح معها تلاقحا مشروعا بناء.

وإذا كان الوجه الديني الذي تمثله المملكة العربية السعودية بتشرفها بكونها تحتضن قبلة المسلمين، ومثوى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، أبهى وجوهها، وأكثرها ضياء ومهابة، فإن الوجه الفكري المبني على الثقافة الإسلامية الأصيلة يظل يبرق عزة وأصالة أمام كل الثقافات المصنوعة تحت المطرقة الشرقية، والقبعة الغربية.

وفي كل بلد في العالم تقام أعراس الثقافة؛ لتكون فرصة لتلاقي رؤوس الفكر، وعلماء الأمة، وأرباب الكلمة الأديبة؛ للتداول في واقع الأمة الثقافي والسياسي والاجتماعي؛ للوصول إلى توصيات يمكن أن تسهم في تطوير الحياة، ورفع مستوى الفكر، وتبادل الآراء، والانصهار في بوتقة الوحدة الذهنية، التي شتتتها فضائيات الفتنة، وبرامج الشرذمة، التي تزيد من عمق التقاطع، ولا تسهم في جمع الكلمة.

وها عرس ثقافتنا الإسلامية العربية (الجنادرية) يشعل شموعه، ويضيء أنواره؛ ليواصل رحلة عقدين من الزمان، قدم فيها مئات البرامج والمطبوعات، وناقش فيها مئات القضايا الساخنة على الصعيدين الفكري والسياسي.

على أني أود أن يستفاد من هذا المهرجان العملاق بتقنيات باتت مطروحة في الطريق ـ كما يقول الجاحظ ـ ، بإيجاد قناة ثقافية مصاحبة له، تنقل كل فعالياته الثقافية على الهواء مباشرة؛ ليتم التلاحم مع جماهير المثقفين في كل مكان.

وأن تقوم الصحف بإصدار ملاحق خاصة به، تنقل كل المحاضرات وأوراق العمل والأمسيات الشعرية، وتضعها بين يدي القارئ.

كما أتوقع أن يكون للمهرجان موقع على الشبكة العالمية ليبث فعالياته حية مباشرة، وينشر المواد المطبوعة.

(الجنادرية) تمثل وجه المملكة الثقافي كما هو، وهكذا ينبغي أن يكون، هي إطلالتنا على البلاد العربية كلها؛ من خلال من يشاركنا منهم في احتفالياتها وبرامجها، ومن يشاركهم منا، ومن خلال ما يبث ويطبع منها؛ ولذلك فمن الخطأ أن نجامل في الاختيار على حساب سمعة بلادنا ومنزلتها.

(الجنادرية) فرصة حقيقية لتحريك راكد الثقافة والأدب والنقد والفكر، فمن الخلل أن تمر بشكل تقليدي جعل بعض المثقفين ينادي بالتقليل منه؛ بحيث يكون عاما وعاما أو أكثر من ذلك تباعدا، بل لا بد من محاولات التجديد والقوة ومنح فرص أكبر للمبدعين أن يبتكروا.

ومن حق بلادنا علينا أن نعيش هذا العرس بأشكال أكثر عطاء، بمثل أن ينظم للمشاركين فيها من الوافدين من خارج المملكة زيارات علمية للجامعات السعودية؛ للاطلاع على مستواها الحقيقي، الذي لم يظهر كما هو في التقييم الجائر الذي خرج قبل فترة قصيرة في أحد المواقع. ولا تكون هذه الزيارات مجرد نظر عابر، بل لا بد من عقد اللقاءات بأولئك المفكرين مع أساتذة الكليات، ومع الطلاب؛ ليكون استثمار قدومهم إلى المملكة أكثر نفعا وجدوى، وبهذا يتنقل العرس من مدينة إلى أخرى، ولو نظم لكل مفكر أو أديب لقاء واحد؛ لكان لذلك أثر كبير في قراءة الثقافة الأخرى التي نمت في غير بلادنا، ومحاورتها، والتثاقف معها.

إن هذه الكلمات ليس حكما استباقيا لعرس هذا العام،  ولكنه توقع استشرافي مبني على ما كان في الأعوام المنصرمة، آملا أن يكون في هذا العام أفضل وأكمل وأنضج.

وكل عام وبلادي هي الأنضر.



اترك تعليقاً