كانت رحلتي القصيرة إلى عمَّان في الأيام الماضية ، إطلالة ثانية على هذه البلد المرابط على تخوم فلسطين ، فقد زرتها زيارة علمية جامعية قبل بضع سنين ، وفي كلا الزيارتين كان التركيز على طرفين من أطراف حضارتها العريقة ، الأول / الشريحة العلمية المثقفة ، والثاني / ما تكتنزه أرضها من أوسمة تاريخية ، شاهدة على جذور المدنية في ترابها .. بل جبالها الشماء .
فأما الجانب الخاص بالثقافة ، فلا أخفي القاريء شعور خالجني وأنا أرمق آفاق الثقافة في ربوعها ، ومؤسساتها المتعددة ، وآثارها الإيجابية ، فالشعب الأردني شعب مثقف بوصف عام ، وهو شعب محب للكتاب بشكل خاص ، وإذا لم يستغرب على الأكاديميين والأدباء التفافهم على الثقافة في عصر الهرولة وراء تأمين لقمة العيش ؛ لكونها سلعتهم وزادهم ، فإن مخالطتي لشريحة أخرى هي في خدمتها جعلني أذهل لهذا الانكباب على الحرف ؛ سواء أصيغ نثرا أم شعرا ؟!
السائق الذي رافقني كان أنموذجا ممتازا للمثقف ( العام ) إذا صح الاصطلاح ، فهو ملم بأطراف الثقافة ، وحافظ لمجموعة من القصائد ، فصيحها ، وعاميها ، بل لديه محاولة لكتابة الشعر ، والفترات التي يقضيها في انتظاري كان الكتاب لا يقع فيها من يده .
الجمهور الذي حضر المحاضرة الأدبية التي ألقيتها في ليلة احتفالات شعبية عامة ، كان أكثر من الجمهور الذي حضر المحاضرة نفسها حين ألقيتها في موقع آخر ، وفي ظروف عادية ، فلماذا كل هذا الاهتمام بالثقافة ؟
المداخلات والأسئلة كانت تحمل هم الثقافة العربية والإسلامية ، وتبحث ـ بجد ـ عن ارتواء لظمأ الأسئلة المتلوية في شوارع العالم العربي والإسلامي !! كانت تجهر بأحاسيسها بحرقة : في خضم هذا الهجوم المكثف على الأمة : هل لنا رؤية خاصة؟ وإذا وجدت كيف نستطيع أن نوصلها للآخر ؛ حتى لا نبقى نحاور أنفسنا ؟ ثم لماذا لا يكون هناك تواصل مستمر بين مثقفي الدول العربية ؟ وهكذا مما يدل على وعي ونضج كبيرين؟
لقد لفت نظري اعتراض أحد الحاضرين على مقولة نقلتها لأحد النقاد تقول : (( الكاتب إذا لم يجد من يستمع له سوف يكسر قلمه ويسكت )) ، فقد كان المعترض يقول : الكاتب في عصرنا أكبر من يسكت إذا لم يجد من يسمعه !!
حقا .. لهذا الاعتراض أكثر من دلالة ، وأبرزها هو أن الثقافة والكتابة ممارسة ذاتية ، وشعور بالوجود الحقيقي المنتج للإنسان ، قبل أن تكون تواصلا مع الآخر ، مع أنني لا أزال أحتفظ برأيي في الأهمية البالغة للتواصل مع المتلقي ؛ بوصفه دافعا من دوافع الإنتاج ، دون انهزام أمام مستواه ، أو انتظار لطلباته .
وأما الوشوم التي تركتها الحضارات السالفة على وجنات الأردن فهي كثيرة ، وأبرزها الآثار الرومانية بمسارحها الجبلية المتميزة ، ولكن ما يسترعي النظر هو اكتشافات أثرية أخرى ، تنصب على القصص القرآني ، وتحاول أن تحدد أماكنها ، فالكهف والرقيم ومسجد الفتية أصبحت ـ في عرف أهل البلد ـ محددة ، وموقع قصة قوم لوط عليه السلام ، وبيته ، وامرأته التي تزعم العامة أنها تحجرت حين التفتت ، حدد القوم أماكنها بدقة، وذلك على اعتبار ( البحر الميت ) هو القرية بأكملها ، وقد قلبت بأهلها ، فهو البحر الوحيد الذي ينخفض عن مستوى جميع البحار ، ويتعذب بملوحة مضاعفة ، حتى لا ترى فيه حسا لحياة .
لقد .. كانت هذه الزيارة فرصة رائعة لتمثيل الأدب السعودي ، والثقافة المحلية في إطارات متعددة : محاضرات حول واقع الثقافة في المملكة، وعرض لبعض مؤسساتها الناجحة ، وأمسيات شعرية ناجحة لشاعرنا الكبير الدكتور عبد الرحمن بن صالح العشماوي لاقت قبولا رائعا ، وعرض للكتاب السعودي ، والفن التشكيلي السعودي ، والفن المسرحي الهادف ، وبعض الفنون الشعبية ، والتراثيات المتحفية .
إن كان لي من توصية بعد هذه التجربة .. فهي أن تتاح الفرصة للمثقفين في الدول العربية في الالتقاء الدائم ، لتبادل الإصدارات ، ووجهات النظر ، والتجارب ..
والشكر موصول للرئاسة العامة لرعاية الشباب ، التي كانت لها جهود رائعة مشكورة في تنظيم وتهيئة هذا الأسبوع الثقافي السعودي المتميز .
وتحية للإذاعة السعودية التي سجلت جميع أحداث الأسبوع ، وللتلفاز السعودي الذي كان متابعا جيدا ، ولصحافة عمان التي كانت مرآة ناصعة لوقائع الثقافة السعودية على أرضها ، ولنادي الشرقية الأدبي الذي أتاح لي هذه الفرصة للمشاركة ، وللقاريء الذي أنصت لمشاعري هذه .
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.