أكثر ما تستهلك ملكة الناثرين في ميدان الأدب المقالات ، لكونها ذات طبيعة سهلة ميسرة، تنحو منحى الخطاب المتدفق ، وتعالج كل الموضوعات الإنسانية على الإطلاق .
ولكن هناك فن رائع ، يشبه فن التوقيعات الذي كان معروفا في بعض الأوساط المترفة في أدبنا القديم ، ويتبادله الناس فيما بينهم في المناسبات ، وتشبهه إلى حد كبير رسائل الجوال المعاصرة ، التي لا أشك أنها سوف تحصل على اعتراف النقاد مستقبلا بوصفها فنا بديعا ، خاصة إذا كتبها أدباء مبدعون ، ولقد وصلتني منها طرائف وبدائع في منتهى الجودة والجمال . ويمكن أن يلحق بهذا الفن توقيعات الدكتور غازي القصيبي التي أخرجها في كتاب ، وينشرها حاليا في جريدة اليوم ، باسم : ( نصف كلمة ) ، وهي تجربة مكثفة ، وفكرة قد تكون غير متوافقة مع آراء الآخرين ، يقدمها القصيبي في صورة ساخرة أحيانا ، وفلسفية أحيانا أخرى ، ليتقبلها المتلقي ولو كانت تنتقد أمثاله، وهي مليئة بالمفارقات الأسلوبية والمعنوية ، التي تزيدها تشويقا فنيا ناجحا .
أما الفن الذي أردت لفت النظر إليه هو ( فن الخواطر ) ، وقد كتب فيه سلفنا فأجادوا ، ولعل أشهرهم فيه صاحب صيد الخاطر ، ابن الجوزي رحمه الله ، الذي يوحي عنوانه بأن الخاطرة صيد ثمين قد يفر في أية لحظة إذا لم يقيد ، ولذلك أصبح من أهم الوصفات الإدارية الإبداعية المعاصرة للمبدع أن يبادر بتسجيل كل أفكاره ، فإن كل الإبداعات التي غيرت وجه الأرض بدأت بفكرة .
وفي العصر الحاضر خرج علينا جمال الدين الأفغاني بخواطره الجريئة التي جمع فيها تجربته ورؤيته للحياة وفلسفته الخاصة وسماها ( خاطرات ) ، وهو الكتاب الوحيد لهذا المفكر العملاق ، والذي اختلف في حياته وتوجهاته وصلاته كثير من معاصريه ومن تلاهم من الدارسين ، ويبقى الكبار ـ دائما ـ مثار اختلاف في تقويمهم من الناس ، وأحمد أمين الذي أسعد المكتبة العربية الحديثة بكتابه فيض الخاطر . وغيرهم كثير .
ولكني لم أرد أن أقدم أولئك المشاهير ، بل أردت أن أقول : إن من لم يسمع بكاتب ناشيء اسمه ( عمر البدران ) ، فلسوف يسمع عنه ـ إن شاء الله ـ مستقبلا ، أقول ذلك وأنا مملوء إعجابا بكتاباته الرائقة أسلوبا ، الرائعة مضمونا ومعنى .
استمع إليه وهو يتأمل آثار دعوته للمكارم على نفسه فيقول : (( لما رأيت حالي .. عندما تأصلت في بعض خصالي تحيرت كيف تأصلت ؟ فلما تأملت في تلك الخصال وجدت أنها أكثر ما أدعو الناس إليه .. وأكرر الحث عليه .. فعلمت أن دعوتي إليها في كل مرة ، تزيدها في قلبي ذرة ، ومرة بمرة ، وذرة بذرة ، حتى أصبحت في قلبي أعظم من مجرة .. )) .
وقد غلبت على خواطره في البداية هذه السجعات اللطيفة ، ثم رأى أن تركه لتعمدها يجعله أكثر إشراقا وصدقا وتدفقا ، فراح يصوغ تأملاته العميقة في أسلوب مترسل بديع ، على أن مثل هذه الخواطر الموقعة يحسن فيها السجع إذا قل ولم يتكلف ، وما أحلى قوله : (( مرت بي أيام كنت فيها أحرص ما أكون على النوافل ، وكانت سهلة على نفسي ، حتى استصغرت من أهملها على يسرها وعظم أجرها ، فدارت الأيام حتى ثقل على نفسي ما سهل ، فنظرت في المرآة فإذا بي أنا الذي كان يستصغر غيره على التقصير غدوت أكثرهم تقصيرا ، فقلت لنفسي : لعل في التفريط خيرا .. أن تعلمي حقيقتك ، وأن تعذري غيرك ، وألا تقعي في العجب المهلك ، أو احتقار الآخرين أمام عملك )) .
ليست هذه الانتقاءات هي أجمل ما كتب هذا الشاب الرقيق الخلق ، والشفاف الروح ، ولكنها شيء مما وصلت إليه يدي ، وإني لأرشحها للطباعة في كتاب خاص ، وأدعو نادي المنطقة الشرقية الأدبي لتلقف مثل هذا المبدع الذي يشق طريقه في فنون عديدة ، هذا واحد منها ، بل إني لأتفق مع رأي الأستاذ سمير الضامر في الدعوة إلى إقامة أمسية خاصة بالخواطر ، فلعلنا نكتشف آخرين .. ولعلنا نسمع شيئا آخر غير الشعر والقصة اللذين استأثرا بالحيز الأكبر من المناشط المنبرية في كل المؤسسات الثقافية.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.