ماذا أراد المعنى أن يقول ؟

المبدع حالة وليس إنسانا فقط .. هو لا يستطيع أن يكتشف كل جوانب إبداعه في وقت واحد ، فلا غرابة إذن أن يكتشف في كل مرحلة من حياته جانبا جديدا ، وجد له فرصة متاحة ، سواء من الوقت أم من لفت الآخرين نظره إلى ذلك الوجه الجديد من الهرم .

الأستاذ خليل الفزيع قاص مبدع ، قدم عددا من المجموعات القصصية منذ وقت مبكر ، وكانت كل مجموعة تمثل مرحلة من مراحل حياته الاجتماعية والأدبية ، وربما زعمتُ الفكرية كذلك .. ثم صرفته الصحافة شيئا ما عن الإبداع ، ولكنها لم تستول عليه تماما ، ولا شك أن الهم الصحفي اليومي ، والالتزام بمقالة يومية أمر مرهق للغاية ؛ لاسيما لمن عشق التميز والنجاح، ولا يرضى لنفسه سوى مستوى يليق باسمه الناصع في عيون الأدب والثقافة.

لقد كتب الأستاذ الفزيع منذ بداياته في عدد من المجالات ، ومن أبرزها النقد الاجتماعي في مقالاته المتتابعة ، وفي النقد الأدبي في كتابه أحاديث في الأدب والنقد ، وفي القصة معشوقته الأولى والأخيرة ، ولكن .. لا شك أن مضمار الشعر هو الذي فاجأ به الفزيع القاريء حقا ، لأنه لم يكن كعدد كبير من الأدباء والمفكرين ، الذين لا يخلو نتاجهم من قصيدة أو قصيدتين ولا يعدون في زمرة الشعراء ، ولكن المفاجأة هو صدور ديوان كامل يحمل أكثر من ثلاثين قصيدة رقصها على الإيقاعين التفعيلي ، والعمودي ، وصب فيها بوحه الذاتي ، أكثر من التعبير الجمعي ، ورسم فيها علاقته مع الله ، وعلاقته مع ملهمته ، وعلاقته مع أصدقائه ، إلى جانب التعبير عن عدد من التجارب ذات الأبعاد المختلفة .

وليس لمقالة مثل هذه أن تحكم على عمل إبداعي كامل ، بهذا الحجم ، ولكنها التفاتة نقدية هامسة ، ربما تشجع قارئا على استنطاق النصوص ، وبعثرتها ، ثم بنائها من جديد على أساس نفسي ذاتي ، مما يجعل لهذه النصوص قوة على التعبير الشفيف عن تجارب الآخرين المماثلة ، بل يجعلها قادرة على الصمود أمام قراءات متعددة ومختلفة .

لا يوجد شاعر ديوانه كله في مستوى واحد من الجودة ، ومن قرأ المتنبي بتجرد أقر بما قلت ، وكذلك كان الفزيع / الشاعر .. لكنه سيجد أنفاس الفزيع .. وتنهداته .. وتفاءله.. وغدوته .. وأوبته .. وغضبته .. وسماحته .. كل ذلك سيراه بصدق .. وذلك كما يقول العقاد عن سيماء الشاعر .. حينما يكون الشعر مرآة حياته هو وليس حياة غيره .

ولكن السمة التي لا ينبغي أن تنسى في أي عمل نقدي سوف يحتفي بالشعر في إبداعات الفزيع هي أنه قاص في الدرجة الأولى ، وأنه لم يستطع أن يتقمص شخصية الشاعر وحده  في ديوانه .. بل كان ـ أيضا ـ قاصا .. وليس ذلك عيبا .. بل هي سمة من سمات الأصالة، التي تعني ـ فيما تعنيه ـ ذاتية الأديب ، التي تجعل منه إنسانا عاما ، أعني أن أدبه يحمل سيماءه ، ويمتح من تجاربه أكثر من ثقافته ، ولكنه لا يظل حبيس نفسه وذاته ، بل ينطلق من الخصوصيات إلى العموميات ، ومن التجربة الشديدة الخصوصية إلى قضية عامة بحنكة وقدرة فائقة على الانتقال المقنع للقاريء ، بل دون أن يشعر ، وذلك نتيجة خبرة درامية طويلة الأمد تمرس عليها القاص / الشاعر .

بالأمس قادتني خطاي نحو تلك المقبرة

شاهدت حارسين

( راحا يسألان ) ـ ماذا تريد ؟

أجبت : ها هنا تركت قلبي الجريح

ـ أتعرف المكان ؟ ( عادا يسألان )

ـ نعم ( أجبت )

لدي هاجس يدلني عليه

هل هذا شعر أم قصة أم مسرحية ؟

إن الشعر منه قصصي ومنه مسرحي .. ويسميهما النقاد شعرا موضوعيا ، ولكن شعر الفزيع مع أنه خليط من كل هذه الألوان الإبداعية إلا أنه يبقى شعرا غنائيا ، وبوحا ذاتيا ..

للأسف .. لم يبق من مساحة لنعرف .. ماذا أراد المعنى أن يقول .. فلنرجيء الحديث إلى أن يصدر ديوانه الثاني الذي دفعه للطبع للتو ..



اترك تعليقاً