محبس البشر

أبي .. أرجوك أن تكتب عما نشاهده الآن .. إنه مذهل حقا، لا تقع العين إلا على رجل أمن، أو موظف تنظيم، أو جوال، أو كشاف، أو عامل نظافة!! الجموع لا تنقطع من كل جانب، والحرم يستوعبهم في صدره الكبير، ويحتضنهم بين حناياه، ويفسح لهم أطرافه، حتى لتحس بالبركة الربانية في كل شيء فيه.

في كل لمحة طرف رجال يخدمون، بل ونساء كذلك.. الجميع يقف على أهبة الاستعداد لتلبية احتياج ضيوف الرحمن، ومئات الآلاف من البشر يتدافعون كالأمواج الشفافة نحو الكعبة الغراء، محرمون ومعتكفون، وراكعون وساجدون، وطائفون وساعون، جاءوا بألوان البشر جميعا؛ ألف هذا الدين العظيم بين قلوبهم فأصبحوا إخوانا يتراحمون، ويتعاونون، وهم لا يعرف بعضهم بعضا.

إذا أقيمت الفريضة توحدت الصفوف، وكبر الجميع تكبيرة واحدة، فإذا سجدوا رأيت العظمة الإلهية بعينيك، الله أكبر.. سبحان من أعز الجباه المتمرغة في التراب لجلاله.. سبحان من أبلغ تلك الأفئدة من الناس نداء الخليل فلبت بشوق عارم لا تعرف له مثيلا لأية بقعة في الأرض!

إنها مكة .. أحب بلاد الله إليه..

وتظل الجهود الجبارة تتنوع وتتزايد، وتشعرك ـ بوصفك ابنا لهذه البلاد الطاهرة ـ بالفخر الذي لا ساحل له!! إبداع وأي إبداع؟! من يرى المسعى وقد أصبح في أدوار ثلاثة وقد تهيأ تماما لاستيعاب مئات الآلاف في وقت واحد، وبكل سهولة، ومن يرى الساحات الخارجية وقد اتسعت، وتوافرت فيها كل وسائل الراحة والطمأنينة، ومن يرى بعين المستقبل المشروع العملاق الذي يتم الآن تنفيذه لتوسعة الساحات وتوفير مساكن قريبة منها، يعلم أن العمل في الحرم المكي ليس ابن اللحظة المرتجلة، ولكنه ابن دراسات متأنية، وسخاء منقطع النظير.

وبين الجديد من التنظيم، وحلا لمشكلة السكن التي تفاقمت ـ مؤقتا ـ بسب إزالة عدد من العمائر السكنية التي حول الحرم، سيجت منطقة مدخل أنفاق المشاة على بوابة (محبس الجن)، لتكون مجالا رحبا لأسطول أنيق من سيارات النقل الجماعي، بحيث تمر الحافلات على ممرات (ضيقة) طولها أكثر من عشرة أمتار تنتهي بساحة تجمع الناس بعد كل صلاة؛ ليأخذوا التذاكر، ويدخلوا في هذه الممرات لينتهوا بانسيابية إلى حيث باحة الحافلات، التي لا يتوقف طابورها أبدا، كانت الأمور تسير بشكل رائع، حتى جاءت ليلة الختم، التي جمعت نحو مليونين من المسلمين، ارتقت أرواحهم، وتألقت نفوسهم، بآيات الذكر الحكيم، ومناجاة الله الكريم، ثم توجهوا إلى حيث الأنفاق، فوجدوا (محبس الجن) تحول إلى (محبس البشر)، الممرات الضيقة أصبحت عنق الزجاجة، والجموع صارت (كباسة) فلا تسمع سوى دعوات واستغاثات وبكاء أطفال، وترقب وخوف، فإذا نظرت إلى قطر نصف الدائرة البشرية في فوهة كل ممر لم تجده يتعدى خمسة أمتار، وبدلا من معالجة الأمر بفتح الممر، لتتفرق تلك الجموع في الساحة الكبيرة في الجهة الأخرى، أصر المرور على هذا النظام، فازداد ضجيج الناس وضجرهم، وببطء أثقل من جبل أبي قبيس خرج الناس قطرات من ثقب إبرة، وسط خوف شديد على الأطفال من الاختناق، وبخاصة أنه قد حدثت بعض الإغماءات القليلة.

ليس غريبا على التجربة التي أريد بها الخير لضيوف الله أن تنجح فهذا هو الأصل في تجارب بلادنا، ولكن ليس محالا أن تفشل، فمن ابتدعها بشر، وهناك مواطن خلل واضحة في التجربة، ولكن المستغرب حقا هو تكررها بنفس الحجم بل أكثر يوم العيد، حيث خرج الناس من الحرم من تلك الجهة يخطرون في أثواب العيد القشيبة، والبشوت والفساتين المنفخة، فإذا بها تطوى، وتعصر، وتتجمع الغتتر والعقل فوق الرؤوس وكأنهم يراقبون حشدا من المفحطين!!

بحر النجاحات يغطي قطرات الفشل، وكان جميلا أن تراجع التجربة فورا، وتصلح فورا، لا أن تتكرر كما هي، بالرغم أننا كنا نشاهد الكاميرات ليل الختم تقوم بتصوير الحشود طوال فترة الأزمة، ومع ذلك تتكرر المأساة يوم العيد.

أقول هذا حتى لا يتكرر الأمر في الحج، فهناك أخشى أن تتكرر مأساة الجمرات التي أصبحت ـ بعد المشروعات الجبارة ـ جزءا من التاريخ، ولله الحمد والمنة، أخشى أن تتكرر هنا في (محبس الجن/البشر).



اترك تعليقاً