مصارع الأقمار

ولدان كأنهم البدور، يتوشحون بالخضرة، يقبلون عليَّ .. هكذا رأت أم أحد الأقمار الذين قضوا نحبهم على طريق العقير في عيد هذا العام وهم في أعمار الزهور، وسبقهم غيرهم، ولحق بهم الشاب الحافظ عبد الله بن إبراهيم الملحم رحمهم الله جميعا، وجعلهم في عليين، مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا..

والدنيا دولاب يدور بالبشر، فمن سبقك من أحبابك بالأجل، ترك في قلبك حرقة، وفي أعصابك وهنا، وفي روحك وجعا مزمنا.. والمؤمن لا يقول إلا خيرا .. الحمد لله على كل حال.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

لم يكن المأتم في بيوت اليحيى والمبارك والعثمان .. ثم الملحم وحدهم، ولكنه كان يتحرك من قلب إلى قلب، ومن بيت إلى بيت!!

وفي كل محنة منحة.. فالموت حق، ولا بد منه، بل هو من نعم الله على البشر، ولكن الفقد موجع، والفراق محزن، والصبر جائزة المؤمن في هذه اللحظات الرهيبة.

لقد طفت ببيوت الثاكلين، فلم أجد سوى قسمات الرضا تبوح بنور الإيمان الذي يعمر القلوب، ولم أسمع سوى: حمدلة أوحوقلة تعطر المجالس الخاشعة في محراب المصابرة ومغالبة العواطف الفائرة.

سبحان الله .. كيف يربط المولى عز وجل على القلوب فيثبتها، وهي التي تحمل من الحزن ما تكاد تنشق عنه الصدور، وعلى الألسن فلا تقول إلا ما يرضي ربها، وهي التي تغرف من قدور تغلي بالأسى والألم!!

وما الذي يلتفت إليه الناس بعد أن يفقدوا أحدهم، إنهم لن يحصوا رصيده في البنوك لأنها لن تفيده إلا بقدر ما كان ينفق منها في وجوه البر والخير. ولن يلتفتوا إلى جماله وبهاء طلعته؛ لأن الله لا ينظر إلى الصور ولكن إلى القلوب.

بل تراهم يعددون محاسنه المرتبطة بعبادته، وأخلاقه، وحسن معاملته!!

ذلك تقييم بشري ظاهر!! والله يتولى السرائر!!

أعترف بأنني بدأت أدخل في دوامة الحزن منذ أن قرأت خبر الأسرة التي قضت على طريق حفر الباطن بستة عشر نفسا، وداخلني هاجس شرس بأن هذه المصيبة العريضة سوف تعقبها مصائب يرقق بعضها بعضا، فتوالت الحوادث، والتي تعلل باستمرار بالسرعة الزائدة، وقد يكون الأمر حقا، ولكن من الحق أيضا أن بعض هذه الطرق لا تزال مؤهلة لوقوع حوادث مروعة، وأخطرها ما يكون خطا مفردا، للذهاب والإياب.

ولا أدري ما الذي دفعني أن أركب سيارتي، وأنطلق إلى مكان الحادث الذي وقع على طريق العقير من جهة مدينة العيون، وكأني لا أعرفه من قبل، فوجدت أن وضعه خطير جدا، ولا يسمح بأي تجاوز، وأن أي حادث سوف يقع عليه سوف يكون مفترسا، لأنه وجه لوجه، مهما كانت السرعة عادية أو زائدة.

وفجأة تراقصت صور الشباب أمام عيني على الطريق، تخيلت الحادث كأنه يقع أمامي، أحسست بأن الهول الذي داخل نفوس الشباب في لحظة الصدام أعظم من الموت نفسه!! دخل من معي في قلق وخوف وتحسب وحذر، وطلب بعضهم العودة، ولكني صممت على المواصلة، والحافظ رب البريات، وبارئ النسمات عز وجل. ولا حارس كالأجل، فالشباب رحلوا إلى الغفور الرحيم في حادث، والشيخ الملحم قدم إليه وهو في بيته لا يشكو من شئ.

كانت البلدية قد أقامت في العقير مهرجانا سياحيا، لإحياء الميناء التاريخي، ونجح المهرجان في اجتذاب الآلاف، ولكني تساءلت بعفوية: إذا كانت البلدية تهدف إلى الاستمرار في ذلك، والخطط القادمة لهذا الميناء تبشره بنهضة عملاقة، وتطوير شامل، أليس من الأهمية القصوى أن تسارع وزارة المواصلات بخط آخر تقرنه بالموجود حاليا، ولا سيما أن حافلات العمال، والشركات، والشاحنات صارت ترتاده بكثرة كاثرة، لخدمة المشروع من جانب، ولخدمة القرى التي وصلت به أخيرا.

إن الدولة رعاها الله تولي (المواطن) الأهمية القصوى في خطط التنمية، وأغلى ما يحافظ عليه الإنسان روحه التي بين جنبيه.

إن الموت ليس رحيل إنسان عن الدنيا وحسب.. إنه طعنات لا تشفى من قلوب الفاقدين، ونزيف لا يتوقف في مشاعر المحبين، ويتم وثكل وترمل .. وربما فقر وحاجة، وربما ضياع وجنوح وانهيار لأسرة كاملة، وكل ذلك يستحق البذل والاهتمام.



اترك تعليقاً