معذرة شيخي الحبيب

ليس إلا الحب يزف عرشك في عرس جنازتك العظيم، ليس إلا النور ينطلق هالة حول كوكب اسمك المهيب محفوفا بالابتهال والدعاء الوفيين لأبوتك، ليس إلا الجمال .. كلما تذكرت لحظة من لحظات تاريخي معك .. أزخرف به روحي، وأريش به أجنحة طموحي، وأتوغل به في مسام خلاياي، وأتعلم به كيف يمكن أن يكون الرجل كل هذا الذي كنت..!

أيها الشمس التي ما أشرقت على قوم إلا كشفت عنهم غيوم العبوس، وفاضت عليهم بألذ ما تشتهيه النفوس، الجبل حلما، والبحر علما، والغيث كرما، والنبل خلقا، والحب فنا ومعاملة وطبعا..

أحبك .. وليس غريبا أن تسمع هذه الكلمة المتوهجة .. فأنت هي .. وهي أنت .. ولا أظن بأن كلمة لاحقتك مثلها من كل من اقترب منك .. ولكني أدَّعي النصيب الأكبر منها .. حتى قلت في آخر أيامك: “لاسم خالد .. وقع في نفسي ..” وبكيت وأبكيت من حولك!! فما أحظاني بكل هذا الحب النادر!! ويا ألمي حين لم أستطع أن أكون وفيا بحجمه .. نعم أدعي الحب الخالص منك وإليك .. بيني وبينك .. فإن نازعني فيه أقربوك وتلاميذك ومريدوك .. فليت أنا بقدر الحب نقتسم..

حبيبي .. كم فقدتك .. فقدتك وأنت لا تزال تذرو الضياء فوق الأرض، حين اجتذبني ما حُبِّبَ إلي من أعمال كنت تحث عليها وتمارسها، فأشغلتني عن الالتصاق بك كما كنتُ معك ربع قرن من الزمن منذ (1406هـ) .. تمثل ربع حياتك الذي حظي بعودتك الظافرة السخية إلى هجر، بعد أكثر من خمسين عاما من التسفار في سبيل رفعة الوطن الذي عشت من أجله، .. كما أنها تمثل ربيع حياتي الذي تشكلت فيه أغصانها، وكنت معي خطوة خطوة .. بكيت لألمي حتى أشفقتُ عليك، وبكيتَ لفرحي حتى همتُ بأبوتك..

أيها الراحل .. لست أدري كيف اتسع قبرك المحظوظ بك .. لكل ما تحويه روحك من إيمان، ونفسك من بهاء، وذاكرتك من علم، وحياتك من عطاء!!

لكنه الموت .. حين تحن إليه الروح المثقلة في دنيا هزيلة .. حنين النبتة البرية لقطرة المطر.. فأية دنيا بقيت يمكن أن يضم جنبات صدرها مثلك!! لقد كان القبر أوسع منها بكثير .. بكثير .. فلقد ضاقت عن الأحرار، فراحت تفجعهم في كل ما يحبون، وتفجؤهم بكل ما يكرهون!!

رحلت .. ولم تذر خلفك مثلك .. فيما تعج حياتنا بتراكم النسخ الكربونية من أمثال غيرك!!

رحلت .. والأرض تبكي وتجهش حتى يزلَّ آخر نفس من أنفاس دموعها على حارس العربية التي تثعب دما في حناجر من يُسمون أدباء، ومن يدعون أنهم شعراء، بل ومن تصدروا ليكونوا معلمي العربية للناشئة، وهم لا يقيمون جملة صحيحة، ولا يعربون بيتا واحدا، ولا تستقيم لهم كتابة.. إلا من رحم ربك!! وأنت الذي بقيت حتى آخر قطرة من حياتك واقفا كالنخلة الأحسائية، على منبرك في الأحدية، وعبر نسمات الأثير، وعلى صهوات الصحف، تذب عن حياضها، وترفض كل خطرة من خطرات الشيطان التي تريد الوصول إلى مقتل من مقاتلها!! فكيف لو بقيت أكثر، وسمعتَ ما سمعتُ!!

رحلت وتركت الأقزام تنقطع رقابهم وهم يحاولون أن تصل أنظارهم الكليلة إلى قمة هامتك فيرتد الطرف خاسئا وهو حسير، فلم يعد لهم حول ولا قوة بعد كل ما قالوه .. ومن طبيعة مثلك أن تحيط به ابتسامات شتى، فبسمة تنبثق إعجابا، وبسمة تتدفق حبا، وبسمة تنفرج دهشة، وبسمة تنفجر حسدا!! وليس ذلك إلا لمثلك.. فمن طبيعة العظماء أن يختلف الناس في شأنهم، لأن من موازين العظمة أن يكون لك رأيك واقتناعاتك ومبدؤك، تحترم من يخالفك .. فيبقى قلبك طاهرا، وخلقك راقيا، ونفسك راضية، ولكنك ـ أبدا ـ لا تتنازل عن مبادئك، ولا تخرم مروءتك، ولا تتراجع عن هدفك، ولا تقبل الدنية في دينك.

تجاوزت مساحات الحروف، ولم تنفد نبضات الحب، ولم أحط ببعض وهج الذكريات، فلقد تعلمت منك كثيرا .. كثيرا .. كثيرا ..

هل .. لا بد أن أذكر اسمك .. لا أجد لذلك حاجة .. لأنك أكبر من ذلك .. ولكن من أجل التاريخ أقول .. حبيبي أبو مازن الشيخ أحمد بن علي آل الشيخ مبارك.



اترك تعليقاً