المنارات تتعالى ..

خطوات الإبداع قد تكون بطيئة، وقد تكون ـ أحيانا ـ متباعدة، ولكنها قادرة ـ بإذن الله تعالى ـ أن تصل؛ لأنها تمتلك عزيمة متجددة، وأملا دافعا، وهدفا واضحا.

هذه الحقيقة النافذة، التي يجهلها كثيرون ولذلك يتوقفون في منتصف الطريق، رأيتها عيانا في زيارتي لمخيم منارات العطاء بالدمام.

الابتسامات تزين الوجوه، والسعادة تغمر المكان، وخطوط الإنتاج تقذف بالمزيد من العلب الأنيقة التي تتلقفها الأيدي الغضة من بعضها، وكأننها تتلقف هدية نفيسة كانت تتشوف لها.

أما تطبيقات المشروع الخارجية في نقاط المرور الرئيسة، فهي تدهشك أكثر، الشباب يقف بكل أريحية، ينتظر الإشارة الحمراء بشوق ينافس انتظار السائقين للإشارة الخضراء، فيتقدم ـ وأذان المغرب يتأهب لإطلالاته الوضيئة ـ تسبق بسمته يده، فيحيي أخاه الصائم ويسلم له الوجبة؛ رجاء أن يقبلها منه؛ حتى لا يضطر للسرعة التي قد تلد حادثا.

إن جدوى المشروع ظهرت من خلال أمور كثيرة جدا، منها أن جميع النقاط التي ترتكز فيها منارة العطاء للإفطار المتجول لم يحدث فيها حادث خلال الشهر الفضيل ولله الفضل والمنة.

وأن 25000 فرصة أجر يوميا، بعدد الوجبات أتيحت لمن أسهم في هذا المشروع، بماله أو بجاهه، أو عمل يده، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

وأن 4000 من فتيان الوطن وجدوا الفرصة المتعددة المنفعة من خلال هذا المشروع؛ أجر أخروي، وخدمة وطنية، وفرصة تربوية، واعتياد على الاحتساب، وممارسة للتعاون البناء، وتطهير للنفس من الألم والحزن والاكتئاب.

إن هذا المشروع يثبت أن شباب الوطن في حاجة إلى فرص مستمرة لاستثمار طاقاتهم وتوجيهها الوجهة الصحيحة، وأن لديهم الاستعداد للبذل والتضحية والتطوع، ولكن حين يجدون من يحسن التعامل معهم.

لقد تبارى أولياء الأمور في إقناع المسؤولين عن البرنامج بالتفضل بالسماح لأولادهم بالمساهمة في المشروع (مجانا)، بل تنافس البنات مع الشباب، وطالبن بيوم خاص بهن، وحين أتيحت لهن الفرصة، لم يتسع المكان لهن، وطالبن بخطوط إنتاج خاصة بهن في خيمة منفصلة للعام المقبل بإذن الله تعالى!!!

هل يتوقع الأب أو الأم أنهم يستطيعون أن يربوا أولادهم بنين وبنات داخل أسوار المنزل دون النزول إلى الشارع، واستثمار الفرص.

كيف سيتعلم الولد الإيثار والتعاون والحب الطاهر وحب العمل والبذل، و.. وهو جالس على أريكته يلوك همه؟ أو وهو يصارع آلة من الحواسيب تصرعه كل يوم وتقهره؟!!

إن مثل هذا المشروع ليس تقديم وجبة فقط، وإتما تقديم رجال ونساء لعيون الوطن الغالي، يصنع منهم أكفاء قادرين على البذل، دون انتظار أي مردود.

إنه مشروع ناضج، يبهرك بإدارته الدقيقة، مع سعة مساحة تنفيذه، وضخامة عدد المتعاونين فيه، وحد الوقت الذي ينفذ فيه، فهو لا يعدو دقائق الإفطار القليلة، وتعدد مسارات العمل؛ فهناك جلب للمواد، وتعبئة آلية، وطاقة بشرية كثيفة، وأسطول من السيارات، وتباعد بعض المدن في الشرقية، وثلاجات ومستودعات، وتنمية للموارد، ومن مارس العمل التطوعي علم بأن أكبر هم يعالجه القائمون عليه هو جلب المال، ولو كفوه لتضاعف إنتاجهم، وحققوا الجودة.

وأما الوجه الثالث لهذا المشروع فهو النمذجة للمشروعات الخيرية، فهو مشروع متكامل، يمتلك رؤية ورسالة وأهدافا وآلية واضحة، وإمكانات إدارية وطاقات بشرية، أبرز صفاتها إيمانها بمشروعها، ولا أنسى حضور قادة المشروع في الميدان، فهذا ما يجهله بعض القادة والمديرون الذين يظنون الإدارة إنما تمارس على المقاعد الوثيرة، والمكاتب الفخمة، وعن طريق الهواتف.

لقد كان المسؤولون في وسط الشباب، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ القاضي سعد المهنا رعاه الله، فأي حماسة سيبثه وجوده في هؤلاء الفتية، وهو يلتفت إلى أحد الشباب حين مر بنا ويقول: هذا محمد أحد أعمدة هذا المشورع، وهو شاب لم يتجاوز العقد الثاني من عمره!! إنها كلمة تملأ الشاب ثقة بنفسه، وتجعله يحس بقيمة قد يفتقدها بعض شبابنا في بيوتهم أو مدارسهم.

أما المنارات فهي أوسع من مشروع مؤقت بشهر واحد، فإلى جواره منارة وعظية للبداية والنهاية، وشبابية للصحبة الصالحة، وعبادية للصلاة، ودعوية للتواصل، وقرآنية للتحفيظ، وغيرها من سبل الخير والدعوة والبر.

اللهم بارك في الجهود المخلصة.



اترك تعليقاً