عاد حجاج بيت الله الحرام بفرحة عارمة، فقد تجمعت أسبابها منذ أن علموا بأن يوم عرفة سيكون يوم الجمعة؛ عيد الإسلام الأسبوعي، موافقا بذلك حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تتابعت الأسباب حتى نهاية الموسم؛ لتسجل نجاحا فريدا.
كان متوقعا أن تزداد أعداد الحجاج هذا العام؛ بسبب الزيادة المطردة عادة كل عام، وازديادا الوعي الشرعي بوجوب الحج على الفور على المستطيع، إلى جانب اجتماع عرفة والجمعة في يوم واحد؛ مما جعل الانبعاث الداخلي لإتمام الحج والعمرة لله كما أمر الله قويا جدا، كل يريد أن يحظى بحجة صحيحة المسار؛ لعله يحظى بالقبول؛ كيف والمأمول أن يغفر الله للحاج كل ذنوبه، ويعود كما ولدته أمه.
وكان الجو المناخي رائعا؛ حيث ظللت السحب حجاج بيت الله الحرام معظم الأيام دون أن يهطل مطر مؤذ كما وقع في سنة مضت، ونسائم الشتاء المكي اللطيف راحت تبعث الانتعاش والنشاط في نفوسهم وأجسادهم.
ومرت الأيام المعلومات المعدودات كأنها لحظات .. مليئة بالنور الإلهي، مشحونة بالعواطف الزاخرة بمعاني الأخوة الإيمانية، إيثار .. وتعاون على البر والتقوى .. وصدقات .. وهدايا .. وروائح الحب في الله تتصاعد بالأريج والفل والريحان .. والدعوات الصادقة تنبع من قلوب موقنة بموعود الله بالإجابة.
وجاء عرفة .. فوقفت الأرواح قبل الأجساد تقول: يا ألله .. وتستعرض ماضيها وحاضرها بين يدي العليم الخبير الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وتضع مستقبلها بين يديه داعية منيبة خاضعة ذليلة لمليكها عز وجل ..
وتحرك الحجيج مع الغروب في تفويج نجح إلى حد كبير في ترحيل أكثر من ثلاثة ملايين حاج من عرفة إلى مزدلفة في ساعات؛ ليشهد بنجاح خطة هذه السنة بدرجة أفضل من سابقتها .. وإن كانت لا تزال تحتاج إلى مزيد دراسة وتعديل؛ لتلافي بعض القصور الذي اعتراها، وهو أمر متوقع؛ فالأعداد أكبر من مساحة الأرض المتاحة، والوقت مرهون بمسائل شرعية محددة، والثقافات مختلفة، والوعي متفاوت، والمسؤولية جسيمة.
وجاء العيد ليشهد تفرق الحجيج في أماكن كثيرة؛ فمنهم من سارع إلى الجمرة ليرجمها، ومنهم من سارع إلى الحرم ليطوف ويسعى، ومنهم من عاد إلى منى ليرتاح أو لينحر الهدي، ومنهم بين هذا وذاك، وجنودنا الرائعون مبثوثون في كل مكان؛ فلا تكاد تدير عينك في ناحية إلا وجدتهم يعينون عجوزا، أو يدلون تائها، أو يحثون بطيئا، أو يقفون على منشأة أو مشعر حراسا أمناء، في تعامل راق جدا.
شهد الناس في الجمرات كيف يصنع النجاح الفريد، لقد دخلنا الطريق المظلل وكأننا في مهرجان شعبي كبير، مئات الآلاف تمشي بتؤدة ورفق، تهلل وتكبر وتحمد وتشكر، وجنودنا (.. أعتذر عن وصفهم .. لأنني لم أجد الوصف الذي يستحقونه ..) وقفوا على حواف الطريق .. وفي جوفه .. كأنهم فنارات مضيئة في بحر يتدفق بالبشر .. يزيلون وحشة الكدر عن خواطر الناس، ويسرجون الأمل في دواخلهم برمي هادئ رغم الزحام، وفي وقت يمثل ذروة الرمي (بعد زوال اليوم الثاني)، فلا تسمع منهم إلا .. (كن مطمئنا .. ليس هناك زحام .. السكينة السكينة)، تلتفت فترى مجموعة من الجنود ليس لهم مهمة إلا لغة الإشارة وقد امتدت أيديهم إلى الأمام بحركات حانية أن سيروا بهدوء لتصلوا سالمين، وآخرين قد اصطفوا جدارا بشريا أمام الموج كلما مشى الناس نحو كيل .. ليخففوا من كثافة الزحام في داخل المرجم.
لقد شهدت الناس وهم يدعون لهم من أعماق قلوبهم، بل يربتون على أكتافهم، ويودون لو قبلوهم فردا فردا.
وما إن وصلنا إلى جسر الجمرات حتى انفرجت أسارير وجوهنا ونحن نرى العشرات منهم قد تهيأوا لأية مفاجأة قد تحدث، وآخرين قد اصطفوا لله قائمين وراكعين وساجدين .. تحت الجسر ينتظرون دورهم في الخدمة .. منظر أعظم من تصفه العبارات.
إن جنودنا وهم يقفون هذا الموقف الإنساني والإسلامي يضربون أعظم الأمثلة في امتزاج الأداء الوظيفي الواجب بحب خدمة الحجاج رغبة فيما عند الله، هذا ما نحسبه فيهم والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحدا.
ولا شك أن وراء هذا المنظر الظاهر منظرا آخر غير مشاهد، ولكنه عند الله مشاهد، قادة هذه البلاد الذي أخذوا على أنفسهم أن يبذلوا كل ما يستطيعون لراحة الحجيج، بسخاء ومتابعة وسهر، حقق الله بها هذا النجاح الباهر.
لقد انتهى الموسم ولم تسجل حادثة واحدة توفي فيها حاج واحد بسبب الزحام، وهذه في حد ذاتها دليل على النجاح الذي تحقق.
وكان تطويق الافتراش الذي كان يضايق الحجاج في طريقهم إلى الجمرات، وهو ما لم يتحقق في أية سنة مضت نجاحا آخر لا يقل عن النجاح السابق.
النجاحات أكبر وأكثر من أن تستوعبها مقالة .. وما عند الله خير وأبقى.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.