هدايا للموظفين .. فقط ..



الهدية/الجريمة؛ تلك التي تختبئ بين مكاتب المؤسسات الحياتية التي تتعلق بها مصالح الناس، فتهدد كيان المجتمع، وتضيع الحقوق بين أفراده، وتنشر الفساد فيه، وتزرع بذور الفرقة والخلاف والعداوة والبغضاء بين صفوفه.

الأمن هو روح المجتمع التي يحيى بها، فإذا فقد فقدت الحياة طعمها، فلم يعد فيها للجمال رياض، ولا للعمل قيمة، ولا للرزق هناءة، ولا للعلاقات البشرية استقرار. ولذلك قال نبي الله إبراهيم عليه السلام: {رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات} فالأمن أولا ثم الرزق.

والأمن ليس محصورا في سلامة المجتمع من جرائم القتل والسرقة والزنا وأمثالها فقط، ولكنه يشمل سلامة المجتمع من كل الجرائم الظاهرة والخفية مهما كانت صغيرة. هل جاء الزمان الذي فيه: ((لا يبالي المرء ما أخذ المال أمن حلال أم من حرام)) [رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وتبدو الهدية/الجريمة في أثواب زاهية مغرية، تجتذب لها القلوب الضعيفة، فتقبلها أول مرة على أنها هدية من محب ليس لها علاقة بمصلحة، ثم تكبر الهدية وتقترب من المطالب المختزنة مسبقا، ثم تنهمر الرشوة مصحوبة بطلب صريح من المرتشي الأنيق، الذي اعتاد على هذه الهدايا الأنيقة، وسلبت لبه، وارتفعت بمستواه الاقتصادي، فأصبح يلبس أفخر الملبوسات، ويركب أفخم السيارات، ويختال بين أقرانه المبهورين بتطوره المادي المفاجيء، الذي لا يتناسب مع دخله العادي الذي يتقاضاه على عمله.

قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الراشي والمرتشي))، وفي رواية عند أحمد: ((والرائش)) وهو الذي يمشي بينهما.

وفرق بين الهدية والرشوة؛ كالفرق بين الماء والخمرة، فالهدية مندوب إليها، قال رسول الله : ((تهادوا تحابوا))، لكن متى ما كانت الهدية سبيلاً إلى حرام فإنها حرام، يقول ابن التين: هدايا العمال رشوة ليست بهدية، إذ لولا العمل لم يهد له، وهدية القاضي سحت، وإذا قبلها وضعها في بيت المال، فقيل له: إن رسول الله كان يقبل الهدية! فقال: إنها كانت هدية، وهي الآن رشوة.

إذا أتت الهديّـة دار قومٍ         تطايرت الأمانة من كواها

روى البخاري في صحيحه عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي رجلاً من بني أسد يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، فقام النبي على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لك وهذا أهدي إلي؟! فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة، يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تعير))، ثم رفع يديه حتى عفرتي إبطيه ـ يعني بياضهما ـ وقال: ((ألا هل بلغت؟)) ثلاثًا. وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من استعملناه على عملٍ فرزقناه رزقًا ـ أي: منحناه مرتبًا ـ فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه أحمد وأبو داود.

لكن بعض الناس تفنن في تسمية الرشوة بغير اسمها حتى يخرجها عن حكمها، فالطالب يعطي أستاذَه، والموظَّف يهدي إلى مديره، وصاحب الحاجة يقيم مأدبة لمن هو محتاج إليه، في صوَر أفسدت العمال على أصحاب العمل، يجعلون الخدمة لمن يدفع أكثر، ومن لا يدفع فلا حول لهم ولا قوة، لا يجد الإنسان أمامه إلا نفوسًا منهومة وقلوبًا منكّسة، (( والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)).

قد تكون الرشوة في الوظائف والمسابقة فيها فيقدم من أجلها من لا ينجح أو تعطى له أسئلة المسابقة قبل الامتحان فيولى الوظيفة مَن غيره أحق منه، وفي الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : من استعمل رجلًا من عصابة – أي طائفة – وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ، رواه الحاكم وصحح إسناده . وتكون الرشوة في تنفيذ المشاريع؛ حين تنزل المناقصة فيبذل أحد المتقدمين رشوة فيرسو المشروع عليه مع أن غيره أنصح قصدًا وأتقن عملًا ولكن الرشوة عملت عملها.

وأغرب من ذلك أن تدخل الرشوة في التعليم والثقافة فينجح من أجلها من لا يستحق النجاح أو تقدم له أسئلة الامتحان أو يشار إلى أماكنها من المقررات أو يتساهل المراقب في مراقبة الطالب من أجلها فيتقدم هذا الطالب مع ضعف مستواه ويتأخر من هو أحق منه مع قوة مستواه العلمي.

وهكذا تغزو هذه الهدايا المجرمة كل المرافق إذا لم يكن في القلب تقوى تمنع، وضمير حي يرفض. والله من وراء القصد.

هدية جميلة/

أهدى الدكتور الشيخ عبد الرحيم بن إبراهيم الهاشم للمكتبة العلمية كتابا رائعا سماه : (الهدايا للموظفين) أحكامها وكيفية التصرف فيها. وددت أن يوزع على كل موظفي الدولة والقطاع الخاص؛ ليكون موعظة وعلما لكل مسلم يريد أن يأكل الحلال مع أهله وأولاده.



اترك تعليقاً