همُّ النهوض .. ما أروعه

قدر لي في الأسبوع المنصرم أن أقابل عددا من المسؤولين في قطاعات حكومية عديدة؛ تعليمية، وصحية، وإدارية، ويلدية، فلمحت في قسماتهم هما، لم تستطع مقاماتهم أن تخفيه، إنهم يحسون بأن البون شاسع بين الواقع والمأمول، بين الممكن والطموح، وهذا الشعور ـ بالنسبة لي على الأقل ـ شعور رائع، يدل على تفتق براعم الإخلاص في القلوب، وبزوغ شمس الإحساس بالإنجاز الحقيقي، وليس الصوري.

إن هذا الهم هو الذي سيدفع بهذه القطاعات إلى البحث عن سبل تحقيق النجاح الأمثل، سوف تبحث عن التجارب الناجحة في آفاق الأرض؛ لتجلب لنا حصيلتها، سوف تستقطب الكفاءات المتميزة والمخلصة؛ لتمكنها من خدمة بلادها، سوف تؤهل النفوس التي تردى ذوقها؛ لتتمرد على تصورها الماضي، سوف تدرب الكوادر الوطنية؛ لتنهض بعبء وطنيتها وتتحمل جزءا من مسؤولياتها، سوف تحدد هدفها البعيد، وأهدافها المرحلية، وتضع خطتها التحليلية الدقيقة؛ لتسير في طريق واضحة نحو هدفها.

إن النجاح ليس حكرا على أحد، ولا على جنس، ولا على دولة، فبعد أن تصور العالم أن الولايات المتحدة الأمريكية قد احتكرت السيادة السياسية في العالم، وتبعا لذلك فإنها تحتكر كل أنواع التقدم، إذا بالعالم يتفاجأ بسبق الروس إلى الفضاء، وهنا أعلن الأمريكان حالة الطوارئ، وأعيد بناء التعليم منذ الابتدائية، وصعد الأمريكيون إلى الفضاء، وظنوا أنهم قد تغلبوا، فإذا باليابانيين يسبقونهم في مجال تطبيق الجودة، فإذا بهم يركضون وراءهم، ويحاولون اللحاق بهم، وكانوا يظنون أنهم سبقوا في الصناعة، فإذا باليابانيين ـ وبطالب واحد ـ يستقدمون التقنية، ويتحرك أول محرك في اليابان، ويعلن امبراطورهم أن أصوات أول عشرة محركات يابانية الصنع هي أجمل سيمفونية سمعها في حياته، وإذا بالأسواق الأمريكية تئن تحت وطأة تفوق الصناعات اليابانية عليها، وكانوا يظنون أنهم بلغوا الشأو الذي لا يضاهى في الرياضيات؛ سر التقدم التكنولوجي، فإذا بهم يتفاجأون بتفوق سنغافورة على العالم أجمع؛ فيستجمعون أمرهم، ويخفضون رؤوسهم، ويتقدمون بثبات لدراسة التجربة السنغافورية، ليستدلوا على أسباب تفوقها؛ لينقلوها إلى بلادهم، وما هي إلا هنيهة، إذ تفاجئهم التجربة الهندية، التي تبهرهم، والتي تومئ إلى مستقبل ربما يجعل الهند بلاد جذب بشري، بدلا من كونها بلاد عمالة مصدرة للخارج.

إن التقدم ليس ملكا لشعب دون آخر، ولا دولة دون أخرى، كما أنه لا يجامل أحدا، ولا يركع لأحد.

الأموال والعنفوان والاعتزاز بالماضي لا يتحول إلى مغناطيس لجذب المجد من جديد، بل الذي يصنع الحياة، ويشيد بناء التقدم ـ بعد إرادة الله تعالى ـ هو: إرادة الإنسان، والتجرد من الأنانية، والتحدي، والتفكير الحر، والبناء المستمر في كل اتجاه، والإخلاص العظيم، الذي يصنع العجائب.

وليس بناء التقدم مسؤولية الدولة والوزراء والقادة فحسب، بل يجب أن يكون مسؤولية شعب كامل، وأمة كاملة.

إن الدراسات أكدت أن السر في نجاح التجربيتن في اليابان وسنغافورة ليس المنهج، ولا المعلم فحسب، وإنما السر الأعظم هو الأم العظيمة، نعم .. الأم التي فقهت دورها، ولم تكتف بوراثته، وقد صدق من قال: وراء كل عظيم امرأة.

إننا في أمس الحاجة إلى حملات توعوية شاملة تستهدف نزع الشعور الذليل بأننا أمة مهزومة، والإيحاء السلبي بأننا غير قادرين على النهوض مرة أخرى.

كل فرد يمثل جزءا من الكيان الكبير، من الصورة التي تتشكل من وحدات؛ كتلك التي تزدان بها المهرجانات الرياضية الكبرى، فإذا نهض بنصيبه أكمل الجزء المسؤول عنه من الصورة، وإذا تخاذل، ظل هذا الجزء خاويا، ناقصا، واختلت الصورة كلها.

نحن في أمس الحاجة إلى أن يشترك الحارس والخادم، والولد والوالد، والوزير والأمير في رؤية واحدة مشتركة، هي أن ننهض ببلادنا، أن نعترف بقصورنا، أن نسلك للتقدم مسالكه، وندفع ضريبته الباهضة، هنا سنحقق التقدم حتما بإذن الله، سنحافظ على أقل المكتسبات، لن نرضى عن أقل تخريب، أو تشويه لأي منجز، سوف يضع كل منا طوبة في هذا البناء الذي اتضح في أعيننا جميعا، سوف نترفع على ذواتنا، حينها سنكبر أكثر، وسنعانق المجد من جديد.. ألسنا أهله ومؤسسيه؟!



اترك تعليقاً