و الرواق العثماني

المتابع للتوسع الأفقي لعدد الحجاج حول الكعبة المشرفة كل عام، يفكر باستمرار في حلول لأزمة الطواف التي لا تزال تشكل أبرز مشكلات الحج، بعد أن حلت مشكلة رمي الجمرات، ولا تزال الدراسات التي يجريها ويشجع عليها معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج تتابع إنجازاتها في هذا المضمار، ولعل من آخرها إزالة الخط الرخامي البني الذي كان الحجاج يقفون عنده لحظات ليذكروا الله تعالى ويشيروا إلى الحجر الأسود لبدء الشوط، ولم يكن لذلك أهمية كبيرة في وجود المؤشرات الضوئية الموضحة، وبعد عدة كتابات ومراقبة مستمرة للمطاف، أزيل الخط، فانطلق المطاف من الحصر الذي كان يحدث له. إن الفكرة لحظة مشرقة في حياة العقل، ربما تكون صغيرة جدا، ولكنها قد تضئ مساحة شاسعة ليس من عمر العقل وحده، ولكن من عمر الأرض كلها.

لقد تغير الحرم كله وتحدَّث كل شبر فيه، حتى أعظم بناء على وجه الأرض وهو الكعبة المشرفة، فقد بنيت خلال التاريخ عدة مرات، ولم يتغير من عظمتها وقداستها ومكانتها في نفوس المسلمين قدر أنملة.

فحصباء الأرض صارت رخاما، والمسعى الذي كان ترابا وسوقا، أضحى ممرا مرمريا بديعا، وتضاعف هذا العام، وزمزم لم تعد بئرا من الطوب والرشا، بل أصبحت برادات منقوشة بأزهى الزخارف الإسلامية المنتمية لعهود الازدهار الفني في الأندلس. ملتصقة بجدار الرواق.

نعم كل شئ تغير في الحرم خدمة لضيوف الرحمن، وتوسعة لهم، وبقي الرواق العثماني؟!

الشكل العام لباحة الحرم المكي مستطيل، يحيط به الرواق العثماني من جميع الجهات، والفكرة التي تريد هذه المقالة طرحها تتلخص في إزالة الرواق من الجهتين المتقابلتين في الاتجاه الأضيق؛ أي ليكون الحرم مربعا؛ بدلا من أن يكون مستطيلا، وبهذا يتسع لعدد كبير من الطائفين أصلا، وتحل مشكلة الطائفين الزائدين عن حجم المطاف في الوضع الحالي، الذين يطوفون في الجهتين الواسعتين، ثم يضطرون إلى الصعود على درجات الرواق العثماني، ثم ينزلون منه، في كل شوط، مما يسبب مشقة مضاعفة، وزيادة في الزمن الذي يقضونه في المطاف، مما يسبب في تعطيل دخول آخرين. وسيتوسع المطاف دون نفقات زائدة، وسوف تحتفظ بجزء من هذا الأثر التاريخي الوحيد الذي بقي في الحرم، من جهتين كاملتين.

وأما ما يتصل بالجانب المعماري، وأثر إزالة هذين الرواقين على معمارية الحرم، وجمالياته فليس لي به علم، وأهل الهندسة ودارسو معمارية الحرم أدرى وأعلم.

وللمتحمسين للآثار بشكل عام، يجب أن نعلم أنه لم يبق من آثار الحج القديمة إلا النادر، وكان لكل تغيير أثر إيجابي أدى إلى مزيد سعة وراحة لعباد الله الذي وفدوا من كل فج عميق ليطوفوا بالبيت العتيق، ويستمطروا رحماته، لا ليشاهدوا أثرا قديما، فإن تيسير العبادة، وحفظ الأرواح مقدم على أي معلم سياحي.

كلنا شهدنا بعيون الإعحاب والتقدير الإنجاز التاريخي في الجمرات، الذي نقل تلك المواقع العبادية من ضيق ومقتلة وشدة، إلى سعة وبحبوحة وراحة.

لقد كان الحجاج يذهبون إلى الجمرات وهم يتوجسون خيفة، وصور الحوادث القديمة تسيطر على مخيلاتهم، وأما الآن ـ والحمد لله والمنة ـ أصبح من أسهل المناسك، بسبب فكرة رائدة رائعة مبدعة، حين امتدت دائرة الرمي المحدودة إلى عشرات الأمتار طولا في أكثر من دور.

لا أظن أن مثل هذا التغيير الكبير مر بهدوء، فإن من عادة الفكرة الجليلة أن تثير العاديين، الذي يزعجهم التغيير، وربما يقاومونه بصلابة، وصبر، ويجندون ما يعرفون من نصوص بمفهوم خاص بهم، ولكنهم سوف يعترفون بأن هذا التغيير كان رائعا بعد أن يصبح واقعا، وأن أصحاب الفكرة كانوا في حاجة إلى صبر ومصابرة ليقنعوا بها الآخرن.

أرجو أن أرى اليوم الذي يزال فيه الرواق العثماني من جهتيه الشمالية الغربية، والجنوبية الشرقية، فأحظى بأجر هذه الفكرة، ولو كانت مسبوقة وأنا لا أعلم ففضل الله واسع.        يقول أخي وصديقي المهندس عمر البدران: العالم أرض خصبة تنتظر فكرة.



اترك تعليقاً