هياج الثقافة .. وخطورة المرحلة

الفورة التي تعيشها الثقافة العالمية اليوم تشبه البركان الأهوج، الذي لا يعرف أين يتجه، ولا ماذا سيدمر، ولا ـ أيضا ـ ماذا سيدفع للأرض من خيرات بين حممه اللاهبة، ونحن جزء من هذا الهياج شئنا أم أبينا، فإما أن نكون بعض الحشائش التي سيحرقها اللهب قبل أن يصل إليها لشدة سطوته، وإما أن نكون جزءا أصيلا من الجبل البركاني الذي يتشكل بعد هدوء الفورة المؤقت.

التدافع العالمي اليوم يحتاج إلى تحديد موقف بلا شك، فالمتفرجون لن يحصلوا في النهاية إلا على المغلفات الفارغة، وهذا الموقف ليس موقفا فرديا يتخذه كل منا لوحده، وإن كان لا بد منه على الأقل في الفترة الراهنة، ولكن الموقف ينبغي أن يكون موقف أمة راشدة هادئة تتعامل مع هذا الصخب الطاغي بعين متأملة، بعيدا عن العواطف والمواقف المسبقة؛ ليمكنها النظر مجددا لما بدأ يتشكل من حولها.

وإذا كان مجتمعنا يمر الآن بمرحلة تشكل جديد، فإن معنى ذلك أنه يمر بمرحلة تفكير غير مسبوقة في العصر الحديث، ومرحلة عاصفة من التغيير، وقد يصاحبها شيء من التفكيك الفكري، وهنا تكمن خطورة المرحلة، كما تكمن أهمية التثبت والثبات على المبادئ، قبل أن يختلط ما ينبغي أن يصر عليه المجتمع المسلم كله، ويعض عليه بالنواجذ؛ من أصول الدين ومحبوباته، وأصول الأعراف القويمة التي نبعت من صميم الإسلام السمح ذي الجماليات المبهرة، مهما تزينت المستجدات وأصبحت مغرية.

وبين ما ينبغي أن ينسف من عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي موروثات اجتماعية تجاوزها الزمن، وليس لها برهان من الوحيين، بل تركت في مجتمعنا بعدا عن أصول شرعنا، وحفرت أخاديد طمرت فيها كثيرا من القيم الإنسانية، ولعل منها حقوقا كثيرة للمرأة حفظها الشرع وضيعتها التقاليد؛ فما كنت أصدق أن هناك من يزوج المرأة دون أن تعلم، أو أنه يرغمها على التنازل عن إرثها تحت ضغط الحياء أو الخوف، أو يمنعها من الخروج نهائيا حتى وإن كانت مستورة، أو يضربها ضربا مهينا؛ محتجا بفهمه السقيم للآية الكريمة، أو يضغط عليها أن تكشف وجهها لأقاربه الذين لا يحل لهم ذلك.

ما أراه الآن .. هو اندفاع غير موزون من بعض الكتبة وأصحاب التأثير الاجتماعي في اتجاه الدعوة إلى تغيير أعراف أجمع عليها الشرع وتربى عليها المجتمع، ولا سيما تلك التي تتصل بحشمة المرأة وقرارها في المنزل، وقيامها بأعظم مسؤولية وهي تربية صانعي الحضارة والمستقبل. فأصبحوا لا يتحدثون أبدا عن هذه المهمة العظيمة والتي إذا انهارت انهار المستقبل كله، ولا عن احتياجها النفسي بوصفها أما وزوجة وابنة وأختا، وأحيانا احتياجها المالي في الأسر الفقيرة، ولم يبق إلا أن يفتقوا لها ميادين جديدة لا تتناسب مع طبيعتها التي خلقها الله عليها؛ ليدخلوا الشقاء بين شقي قلبها الغض الحاني.

المرأة التي كانت تعاني من استبداد الرجل بها، والتي كانت تعاني من الجهل، والتي كانت تعاني من ظلم القريب قبل الغريب، أصبحت اليوم من حقها أن تطالب بكل حقوقها في الاحترام والتقدير والعمل المناسب لسترها وطبيعة خلقها الناعم، العمل الكريم الذي لا يستلها من بين أولادها وزوجها فيجعلها راكضة طوال فترة نشاطها اليومي والعمري في شبابها، ليذهب كل ذلك لخارج المنزل فقط.

العمل الكريم خارج المنزل للمرأة إذا كان متوازنا مع الواجبات الشرعية والبيتية تسنم شرف، وزيادة قيمة، وقيام بدور في غاية الأهمية، ما دام يحترم أنوثتها، ويعزز إنسانيتها، ويضعها موضع التقدير، ويعطيها حقوقها، ولا يحرمها من أمومتها، ولا يحرم أولادها منها، ولا يجعل بينها وبين زوجها حاجزا ماديا ومعنويا في أجمل فترات العمر الزوجية.

وحين ندفع بالأنثى في أي ميدان عملي فلنعلم بأننا ندفع بواحد من أعز قيمنا، وأكثر اعتباراتنا الشخصية حساسية، وأهمها على الإطلاق في إطار الحفاظ على الكيان والعرض والولد.

من حق المرأة أن تنال ثقتنا، وأن تسعد بحقوقها، وألا نشقيها بفقاعات (الحرية) التي أدخلتها دهاليز (الفيديو كليب)، والاستعراض الفضائي القذر المستهين بكرامتها؛ حين أصبحت مجرد فترينة تعرض عليها السلع في الإعلانات التجارية! وفي مهن تستغل جمالها وأنوثتها أبشع استغلال .. حقا إنه البؤس الذي وجدنا الشعراء شديدي الحساسية يعبرون عنه في بعض قصائدهم عن الراقصات ونادلات الحانات !!

لماذا لم يدافع عن هذه المرأة البائسة أحد؟

ولماذا يحاول الراكبون لموجتها الطافحة أن يجروا بقية النساء لهذا المستنقع ؟

إن من حق المجتمع أن يراجع مواقفه من أية قضية، ومن واجب كل مثقف أن يشارك في مهمة الإصلاح الشامل لكل مناحي الحياة من حولنا، ولكن ليس من حق أحد أن يلمع شخصيته ويزل الغبار عنها بمنديل يمثل نصف المجتمع ويربي النصف الآخر/المرأة.

لندع المرأة المختصة في الشؤون الشرعية والاجتماعية والثقافية تتحدث عن حاجاتها، ورغباتها، دون أن نكون أوصياء عليها، وندعي أننا ندافع عنها ونحن نجرها من بيتها ومملكتها وجنتها الوارفة لنزج بها في أتون لا قبل لها بها ونضحك عليها بعد ذلك، حين تأخذ البقية الباقية من الدور الضئيل الذي يأخذه الرجل في البيت في مجتمعنا؛ ليفرغ هو للاستراحات والتمشيات والسفر والشاشات.



اترك تعليقاً