كم أتمنى أن نلتف إلى أعماق مجتمعنا فندرس قضاياه المتوارية خلف شفوف العادات، التي بات كثيرا منها ينشأ وينبت، وفجأة يكبر ويبطر، فنجد أنفسنا أمام مشكلة أخطبوطية تعد أما لمشكلات.
إننا نرى الأموال والجهود تبذل بسخاء لنشر التوعية الاجتماعية في بلادنا، لمحاصرة المشكلات، ولكن كثيرا منا لا يبحث عن أسبابها، فيتتبعها، ولا عن أرحامها التي أنجبتها فيعقمها، ولا عن مغذياتها ليوقفها، وإنما ينشغل بالأعراض التي تفيض عنها على المجتمع كله، فيظل منشغلا بما لا يكف عن الفوران، لأن المصدر لا يزال حرا غير محاصر.
وليس لهذا الأمر سبيل إلا الدراسات الأكاديمية، التي ينبغي أن تتوجه بكل دقة وحماسة إلى تحديد ما يعاني منه المجتمع من مشكلات وظواهر سيئة، فتكشفها، وتعريها تماما، لتعرف من أين تتغذى جذورها؟
قبل فترة نشأت فكرة الاستراحات الشبابية، وخلال عقد من الزمن أصبحت عادة اجتماعية واسعة الانتشار، تذكرني بشجرة النبق، التي تبدأ برغبة من زارعها في فناء بيته، وبعد فترة قصيرة يجدها قد تفرعت في كل اتجاه بدون نظام ولا جمال، وغطت على جاراتها وحرمتهم من الضوء الشمسي اللازم للحياة، وتترست بالشوك الذي لا يغادر فرعا ولا غصنا ولا عقلة إلا أحاط بها، ثم تبدأ حبات النبق تتكور؛ لتغري القاطفين، فما مد أحد يده إلا لسعته شوكة، ثم تضيف إلى إيذائها إيذاءات أخرى؛ بأن تنثر الأرض من ورق يابس، وثمر خرب، وغصن متهدل، فتتحول الشجرة المثمرة إلى مصدر من مصادر الأذى للبيت كله!!
وهكذا بدأت الاستراحات الشبابية، مجرد متنفس يقضي فيه الشاب العزب أو المتزوج وقتا ماتعا مع زملائه، ثم تحول بعضها إلى مهرب من المسؤوليات الأسرية، وضرة للزوجة، وضياع للأولاد، ومنغص للحياة السوية، وفرصة لتبادل الخبرات السيئة، والتعرف على أصحاب السوء، ووقت تمارس فيه الآثام.
وهذه قبضة من رمال المشكلات المنزلية التي سببتها الاستراحات:
“بعد الزواج أصبح كعادة أغلب الشباب يسهر في الاستراحات إلى أذان الفجر، وتكلمت معه بأنني عروس جديدة في الأسبوع الأول، وأريد الاهتمام، فقال: إنني لا أستغني عن أصدقائي، وأحبهم درجة الجنون، والطامة أنه ـ بعد كل هذا الصبر والكتمان ـ أصبح لا يعود إلا فجرا، ورائحة الدخان تفوح منه، فعرفت أنه يدخن، وأنه يرى الأفلام الجنسية، والنساء العاريات مع أصحاب السوء، وأنا هنا لوحدي مع أبنائي، حتى الخروج والتفسح ممنوع والسفر كذلك إلا بعد المعاناة والإهانات”.
وثانية تقول: “أنا متزوجة ولدي طفلان، زوجي طيب ومحبوب بين الناس ولكن علاقتي معه سطحية جدا كل همه الكرة والسهر مع أصحابه على التلفزيون، أو لعب البلاي ستيشن مع وجود الشيشة والدخان؛ مثل باقي الاستراحات (الديوانيات)، أشعر بأني فقدت الحب بيني وبينه..”.
وثالثة تقول:”الرجل يتركنا في البيت لفترات طويلة ـ وهذا الكلام منذ أيام الزواج الأولى ـ فالعشاء ليس للبيت منه نصيب إطلاقا فهو مع الزملاء والأصدقاء في الاستراحة فهو إما عازم أو معزوم“.
إن هذه المعاناة الزوجية تصل إلى مهاو سحيقة غير مرئية، من العذابات الليلية، والانهيارات الشديدة في بناء الأسرة، وقد يولد الغياب الزوجي والوالدي خيانات، وانحرافات، وتخلفا أخلاقيا، وآخر دراسيا، وصداقات موبوءة؛ إما نحو الفكر الضال، أو نحو التميع والانسلاخ من الفضيلة والاستقامة.
ولا شك بأن من حق الرجال أن تكون لهم مجالسهم، ولكن في أجواء نقية، وفي وقت محدود ومناسب، بحيث لا يطغى على الواجبات الشرعية، والمسؤوليات الزوجية والتربوية، ولا على التثقف الشخصي، وتطوير الذات، ولا على الإسهام في خدمة المجتمع والرقي بالوطن والأمة.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.