آداب الجمعة

آداب الجمعة 

الخطبة الأولى:  

الحمد لله نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، ونؤمن به ونتوكل عليه، مفوضين أمورنا إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وإدبار من الدنيا، وإقبال من الآخرة، مبشرًا بالنعيم المقيم، ونذيرًا بين يدي عذاب أليم، فبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، فأدى عن الله وعده ووعيده، حتى أتاه اليقين، فعلى النبي من الله صلاة ورحمة وسلام أبد الآبدين.

أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن في التقوى تكفيرَ السيئات وتضعيفَ الحسنات، وفوزًا بالجنة، ونجاة من النار، وأحذركم يومًا تشخص فيه الأبصار، وتُعلنُ في الأسرار يوم لا يُستعتب من سيئة، ولا يُزداد من حسنة، يوم الآزفة؛ إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.

عباد الله… إن من منن الله تعالى على أمة الإسلام أن جعل لهم يومًا كل أسبوع؛ هو: “خيرُ يومٍ طلعت عليه الشمس، يومُ الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها. ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة”. [رواه مسلم 854].

“سيد الأيام يوم الجمعة، فيه خمس خلال: فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد ربه شيئا فيها إلا آتاه الله؛ ما لم يسأل مأثما أو قطيعة رحم، وفيه تقوم الساعة، وما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا جبال ولا رياح ولا بحر إلا وهو يشفق من يوم الجمعة أن تقوم فيه الساعة” [رواه البزار   في البحر الزخار، 9/191 و إسناده صالح].

ساعة الإجابة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيرًا إلا أعطاه إياه، يلتمسها الأبرار في سائر يومه ولا سيما بعد صلاة العصر إلى المغرب، يدعون ربهم تضرعًا وخفية، فماذا يعني لنا يوم الجمعة؟ وكيف نقضيه؟

إنه فرصة ثمينة لاغتنام الأجور المضاعفة، التي تختص بهذا اليوم، وأعظمها الصلاة والسلام على الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم سائرَ ليلة الجمعة ويومَها، فعن أوسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أفضل أيامكم يومُ الجمعة، فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ يعني وقد بليت قال: إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء” [صحيح رواه أوس بن أوس الثقفي، ابن خزيمة –في تفسير القرآن، .6/46].

قال ابن القيم: “ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيدُ الأنام، و يومُ الجمعة سيدُ الأيام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزيةٌ ليست لغيره، مع حكمة أخرى، وهي أن كلَّ خير نالته أمته في الدنيا والآخرة، فإنها نالته على يده، فجمع الله لأمته بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظمُ كرامة تحصل لهم فإنها تحصل يوم الجمعة؛ فيه بعْثُهُم إلى منازلهم و قصورِهم في الجنة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة، و هو عيد لهم في الدنيا، ويومَ يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يُردُّ سائلهم، وهذا كله إنما عرفوه و حصل لهم بسببه وعلى يده فمن شكره وحمده، وأداء القليل من حقه صلى الله عليه وسلم أن يكثروا من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته.

ومن الأعمال الصالحة في هذا اليوم قراءةُ سورة الكهف، فعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين” [حديث صحيح]. وفي رواية أخرى صحيحة الإسناد أيضًا: “من قرأ سورة الكهف كما نزلت كانت له نورًا يوم القيامة من مقامه إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يسلط عليه…” الحديث.

ووقت قراءة سورة الكهف من غروب شمس يوم الخميس إلى غروب يوم الجمعة، ولعل من البدع التي شاعت في بعض البلاد الإسلامية قراءة سورة الكهف بصوت مرتفع من قارئ يرتلها في المسجد والناس يسمعون، فإنه أمرٌ لم يرد عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عليه سلفنا الصالح، وهو بهذا يشوش على المصلين، والقارئين، فقراءتها على هذا الوجه محظورة.

ويسنُّ للإمام أن يقرأ في فجرها (ألم تنزيل) سورة السجدة في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية سورةَ الإنسان، لأنه فعلُ النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الصحيح.

ويستحب لكل من أراد حضور صلاة الجمعة سواء أكان من أهل وجوبها أم من غيرهم كالمرأة والصبي والمسافر أن يكون على أحسن حال من النظافة والزينة: فيغتسل ويتطيب ويلبس أحسن الثياب ويتطيب ويتنظف بالسواك؛ ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث حقٌّ على كل مسلم: الغسل يومَ الجمعة، والسواك، ويمس من طيب إن وجد” [صحيح]

وقد فهم بعض علمائنا الأجلاء من مثل هذا الحديث وجوب الغسل يوم الجمعة على البالغين، ولكن الحكم مفصل في حديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري: “من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل”.

ويندب التبكير إلى صلاة الجمعة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا كان يومُ الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على قدر منازلهم الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طووا الصحف، واستمعوا الخطبة، فالمهجِّر إلى الصلاة (أي المبادرة إلى الجمعة بعد الصبح أو قرب الهاجرة أي نصف النهار) كالـمُهدي بدنة، ثم الذي يليه، كمهدي بقرة، ثم الذي يليه كمهدي كبش، (حتى ذكر الدجاجة والبيضة) [إسناده صحيح].

ويسن كذلك المشي للصلاة ما استطاع، والدنو من الإمام، فقد روى أوس بن أوس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَسَّلَ وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا”. [حديث حسن ـ البغوي في شرح السنة 2/570].

وإني لأعجب من مسلم يسمع بكل هذا الأجر ويفرط فيه، ولو أن يفعله مرة واحدة في عمره.

أخي الكريم.. ولا يجوز للدنو من الإمام تخطي رقابِ الناس، فقد: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “اجلس فقد آذيت وآنيت” (أي أبطأت وتأخرت) [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]. ويستثنى من ذلك الإمام، ومن كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالخطى، ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام منه لضرورة بشرط أن يتجنب أذى الناس.

فاحرص يا أخي المسلم ألا تؤذي إخوانك المسلمين، وألا تضايقهم، كما أن على من جاء مبكرًا ألا يتخذ مكانًا واسعًا، فيضيق المسجد بعد ذلك على من يأتي متأخرًا عنه حتى يضطر إلى الوقوف طويلًا على الأبواب أو يضطر الجاهلُ بالحكم أن يتخطى الرقاب، والوقوع في المحظور.

وإذا وصلت مكانك في المسجد، فإن لم يأت الإمام، فإن المشروع لك أن تتنفل في مكانك حتى يدخل الإمام مهما طالت صلاتك، وبقدر استطاعتك، وهذه سنة مهجورة إلا عند قليل من الناس؛ “كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك” [صحيح بإسناد على شرط البخاري].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من اغتسل يوم الجمعة ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم يصلي معه غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام” رواه مسلم. فنفهم من هذين الحديثين أن الصلاة قبل أن يحضر الإمام هي أفضل الأعمال في المسجد.

وليعلم من جاء مبكرًا ثم أخذ يتحدث ويلغو أنه أفسد جو العبادة على إخوانه وضيع وقتًا ثمينا. فإذا دخلت وقد دخل الإمام، فصل ركعتين خفيفتين قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما” أي فليخففهما [رواه أحمد ومسلم وأبو داود].

عباد الله هذا بعض ما ينبغي للمسلم مراعاته في هذا اليوم الجليل القدر عند الله، وإن التقي السليم القلب يحرص على ما ينفعه وما يزيد حسناته، وما يكون سببًا في تكفير سيئاته، وقد عجب الصالحون من شأننا حين نسأل عن الأمر فإذا قيل سنة، تركناه؛ لأنه ليس بواجب، وقد كان دأبُ المتقين أنه إذا قيل لهم: إنه سنة حرصوا على فعله؛ طلبا للأجر وتأسيا بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [سورة الأحزاب 33/21].

عباد الله توبوا إليه واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الكريم الوهاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين   أما بعد فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن خطبة الجمعة إنما شرعت لبيان الحق، ودحض الباطل، لتفصيل شرع الله وإيضاحه للمسلمين، وتذكيرهم بواجباتهم تجاه خالقهم البر الرحيم، ولتبصيرهم بالخير والمعروف في شئون دينهم ودنياهم.

واعلم يا أخي الكريم بأن السكوت والإنصات إلى الخطبة واجب، ويحرم الكلام في أثنائها، ولو كان أمرا بمعروف أو نهيًا عن منكر، ولو أن تأمر أحدًا أن يسكت، فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يحضر الجمعةَ ثلاثةُ نفر فرجل حضرها بلغو، فذلك حظه منها، ورجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك أن الله يقول {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}. [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]. وفي حديث آخر: “إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت”.[رواه البخاري].

عجبا ممن يسمع هذا الحديث ويلهو عن عظمته، ويضيع فرصة كبرى من المغفرة والأجر، حتى سمعت أن من بيننا هنا من يلهو بجواله في رسائل وتطبيقات بل وألعاب من قبل بعض الشباب هداهم الله أو حتى الأطفال الذي هم محل تربية وتعديل سلوك، ولولا ثقتي فيمن من ذكر لي ذلك لما صدقت، وهناك من يتحدث وكأنه في مجلسه، ولا يبالي بلغو ولا بأجر، وهناك من يتخطى الرقاب ولا يبالي بالنهي الوارد!!

أيها الآباء الكرام ربوا أولادكم على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وألا يؤذوا إخوانهم المصلين، علموهم آداب الاستمتاع والإنصات، وقربوهم منكم في الجلوس وافصلوا بين كل صغيرين لتقطعوا هذه العادة السيئة عندهم.

والخطبة يا أخي المسلم حجة لك أو عليك، فإنك إذا سمعت حُكمًا من أحكام الإسلام فيجب عليك الطاعة، والمبادرة والإسراع إلى التنفيذ ولا تسوف، فرب إنسانٍ لبس ثوبًا لم يخلعه عن بدنه إلا مُغسلُه، ولا تضعف أمام نفسك وهواك، وتتغلب عليك عادة اعتدتها أو تتكاسل عن عبادة لم تكن تفعلها من قبل بل إن من الغنيمة أن تتعلم شيئًا تتقرب به إلى الله، وتتعرف على ما يسخط الله فتجنبه.

واعلم أخي الكريم أنك إذا جئت متأخرًا ولم تدرك سوى ركعة واحدة من الجمعة فإنك تتمها ركعتين، أما إذا فاتتك الركعة الثانية ولم تدرك إلا ما بعد الركوع الثاني فأتمَّها ظهرًا أربع ركعات واستغفر الله فقد فرطت وفوت نفسك خيرًا كثيرًا.

أما من تعمد ترك صلاة الجمعة بالكلية فقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ترك الجمعة ثلاثًا من غير ضرورة طبع الله على قلبه” [حديث صحيح الإسناد ورجال ثقات]. فلا عجب إن رأيته يعتاد المعاصي، ويفرط في الفرائض الأخرى والواجبات.

واعلم بأن التنفل بعد الجمعة أفضله ركعتان إذا انصرف إلى بيته، وإلا فليصل في المسجد أربع ركعات بغير موضعه الذي صلى فيه الجمعة، وفي كل ذلك أحاديث صحيحة.

كما أنبه على أهمية تسوية الصفوف، ففي يوم الجمعة لا يتمكن الإمام من رؤية الصفوف جميعها، فعلى من يرى اعوجاج الصف أن ينبه عليه من تسبب في ذلك، قال رسولنا – صلى الله عليه وسلم ـ: “اسْتَوُوا؛ وَلا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ” [رواه مسلم 432]. أعاننا الله جميعًا على العلم والعمل.

اللهم أعز دينك وأولياءك، اللهم ارحمنا فأنت بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر بعد الغنى، ومن المرض بعد المعافاة، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الشقاء بعد السعادة، ومن الهم بعد راحة البال. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح وأيد بالحق إمامنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده وأعوانهم، ووفقهم لكل ما فيه صلاحُ البلاد والعباد، اللهم انصر إخواننا في الحد الجنوبي وفي كل مكان، اللهم أغثنا ولا تحرمنا، واجعله غيثًا هنيئًا مريئًا، نافعًا غير ضار. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صل وسلم على رسولك ومصطفاك وعلى آله وصحبه أجمعين.



اترك تعليقاً